الليالي البيضاء > اقتباسات من رواية الليالي البيضاء > اقتباس

سوف تسمعين أن تلك الأركان يعيش بها بشر يتسمون بالغرابة، إنهم الحالمون، ولو أردنا تحديد ماهية الحالم على وجه الدقة، فهو ليس بإنسان، بل هو مخلوق من مخلوقات الكون، محايد النوع، يفضل أن يسكن الأماكن التي لا يمكن الوصول إليها، وكأنه يلوذ بها حتى من ضوء النهار. وعندما يأوي إلى بيته، يلتصق بجدرانه مثل الحلزون في قوقعته، أو على أقل تقدير يشبه ذلك الحيوان الغريب، الذي يُعدُّ حيوانًا وبيتًا في الوقت نفسه، وهو ما يطلقون عليه اسم السلحفاة. فما رأيك في السبب الذي يجعله يحب إلى تلك الدرجة، بيته الملوَّن دائمًا باللون الأخضر، وجدرانه الصماء المُضجرة، والمُشبعة بدخان التبغ بصورة غير لائقة؟ لماذا يتملك الحرج ذلك السيد المُضحك، وتكسو وجهه أمارات الارتباك الشديد، عندما يزوره أحد من معارفه النادرين (وينتهي الأمر بأن ينفضَّ من حوله كل المعارف) وكأنما ارتكب لتوِّه جُرمًا بين جدران بيته الأربعة، أو كأنه زيَّف أوراقًا نقدية، أو نظم أبياتًا من الشعر وبعث بها في رسالة دون توقيع إلى إحدى المجلات، مدعيًا في رسالته أن صديقه الشاعر الحقيقي ناظم الأبيات قد مات، وأنه يرى واجبه المقدس في نشر أشعاره؟ أخبريني يا عزيزتي «ناستنكا»، ما السبب في أن يفشل الحديث بين جليسين؟ لماذا لا ترفرف ضحكة أو كلمة ملتهبة، محلقةً من فم ذلك الصديق المحير الذي يظهر فجأة، والذي نراه في ظروف أخرى يهوى الضحك كثيرًا، ويحب الكلمة الملتهبة والحديث حول الجنس اللطيف، وغيرها من المواضيع المرحة؟ وأخيرًا، لماذا يضطرب هذا الصديق، حديث العهد بمعرفته في الغالب، لدى الزيارة الأولى له؟ حيث إن الزيارة الثانية لن تحدث في كل الأحوال، ولن يظهر ذلك الصديق مرة أخرى، ويشعر الصديق بالارتباك وتتجمَّد عظامه رغم فطنته (إن كان يملك شيئًا منها)، عندما يرى وجه مضيفه وقد تبدَّل، وصار بدوره مرتبكًا ومشوشًا تمامًا، بعد أن بذل جهدًا ضخمًا لكنه عقيم، في أن يقيم حوارًا، يستعرض فيه جوانب معرفته الدنيوية، والحديث بطلاقة حول الجنس اللطيف، فربما يمثل إظهار هذا الخضوع إرضاءً لذلك الرجل المسكين الذي حلَّ ضيفًا بالمكان الخطأ؟ وفي نهاية الأمر، لماذا يختطف الضيف قبعته فجأة، ويرحل مسرعًا بعد أن يختلق مهمة عاجلة لا وجود لها، ويحرِّر يده من قبضة يد مضيفه الذي يحاول إظهار أسفه وإصلاح ما أفسده؟ لماذا ينفجر ذلك الصديق من الضحك فور خروجه من الباب، ويعاهد نفسه ألا يعاود زيارة هذا المضيف غريب الأطوار مرة ثانية وإلى الأبد، على الرغم من أن هذا المضيف غريب الأطوار رجل طيب القلب حسن الخلق، ولكنه في الوقت نفسه لا يمكنه كبح جماح خياله في نزوة صغيرة وهي: أن يقارن ولو عبر أبعد الأشكال، التعبيرات التي ارتسمت على وجه ذلك الصديق طوال اللقاء، بتعبيرات وجه تلك القطة المسكينة، التي سحقها الأطفال، وأنزلوا بها كل صنوف العذاب والتخويف، بعد أن أسروها غدرًا وعفروها بالتراب، ثم استطاعت أخيرًا الاختباء منهم تحت أحد المقاعد، وظلت ساعة كاملة في عتمة الظلام تقوم بنفش شعرها، وتزفر الهواء من منخريها بصوت عالٍ، تلعق قائمتيها وهي تحاول إزالة الإهانات التي لحقت بها، وبعد ذلك تظل طويلًا تنظر بعداء نحو الطبيعة والحياة، وحتى نحو فضلات طعام السادة، التي تأتيها بها الخادمة الحنون التي تعمل في المنزل؟

مشاركة من Lujain . ، من كتاب

الليالي البيضاء

هذا الاقتباس من رواية