الصفْح
لم يستطع الأب أن يسامح ابنته على ذهابها إلى بيت رجل آخر. نعم، لقد فعل هذا الرجل «الآخر» كلّ شيء؛ جاء مع أقاربه، تشدّقوا بالحديث، شربوا القهوة، قدّموا المهر، أقاموا العرس، ولكنّها ذهبت، تركته هو بالذّات، في ضعفه وحاجته وحنانه، تركته هي بالذّات، أقربهنّ إلى قلبه وأغلاهنَّ في روحه، لتذهب ببساطة إلى الرجل الآخر، الغريب، الذي يشتهيها ويشتهي النسل ويشتهي أن يقال: فلان فتح بيتًا. ؤ الحياة.. حال الدنيا.. مكتوب لها البذور»، سحقًا لهم، ألا تكون سنّة الحياة إلَّا في حرمانه من أعزّ الناس إلى فؤاده؟ وما جدوى البذور إن كانوا سيتركونها كما تركته؟
مرّت الليالي عليه وهو مؤرَّق، لم يستطع مسامحتها، على انّها لن ترى أنّ الرجل الغريب لن ينتبه إذا خرجت قدماها من اللّحاف فيغطيهما. وما أدرى الغريب أنّها تمرض إذا بردت قدماها؟ كان مجرّد صبيّ تافه حين كان هو يسخِّن زيت الزّيتون ليدهن قدميها، كلّ ليلة، حتى ينقضي الشتاء، وإذا ناما في الخلاء في السفر، فكيف سيفطن هذا الحضريّ أن يخطّ على الرمل خطًّا يحيط بفراشها كي لا تقتحمه العقارب؟ هل سيفحص المكان بحثًا عن الثّقوب والجحور قبل أن يلقي فراشه لتنام عليه ابنته؟ هل سيمسح جبينها بالمعوّذات ويرقيها؟ وإذا تسلّل البرد من أخمص قدميها فمرضت، فماذا سيفعل الغريب؟ ماذا سيفعل؟ يردّد السؤال لنفسه ويجهش في البكاء. ظنّت امرأته أنّ زوجها عاوده الهذيان في النوم، فهزّته لإيقاظه فما كان منه إلَّا أن سألها عن الرقية وحمّى البرد. كانت امرأته أصغر منه بكثير، وكان يعزّ عليه أن تنظر إلى شيخوخته بإشفاق، تراجع عن أسئلته المفاجئة، ولكنّها لم تشفق عليه، قالت بجدِّيَّة: «وهل تظنّ زوج ابنتك شيخًا جاهلًا مثلك؟ هذا شابّ حضريّ يعرف كلّ الذي لا تعرفه، وعنده بيت كبير ودكّان ومزارع، لا يحتاج أصلًا أن يبيّت البنت في الخلاء». فسكت، خجل من نفسه جدًّا، من زيت الزيتون والتمائم والخطّ على الرمل، سكت عن الأسئلة وكفّ عن البكاء، ولكنّه لم يعرف كيف يمكنه أن يسامح ابنته التي اختارت الغريب وذهبت إلى بيته.
نَارِنْجَة > اقتباسات من رواية نَارِنْجَة > اقتباس
مشاركة من Abd Shurrab
، من كتاب