كان غزل الأدب الجاهلي حزينًا بائسًا؛ لأن أرض الجاهليين بائسة فقيرة؛ ولأن سكانها كثيرو الرحلات وفي تنقل مستمر، والآباء يستنكرون من اجتماع الحبيبين؛ فما بال الغزل العباسي وغير العباسي حزينًا بائسًا، والخير وفير، والحبيب قريب؟ بل ما بال الغزل في الإماء حزينًا بائسًا والأمة في اليد ولا يستنكف مالكوها من حب ووصال؟وكان أدباء الجاهلية يفتتحون قصائدهم بالنسيب إذا أرادوا مدحًا أو أرادوا هجاءً أو
أرادوا أي غرض؛ لأن هذا يتفق وذوقهم؛ فما بال الأدب الذي أتى بعد ينحو هذا المنحى وقد تغيرت الظروف؟
وما بال الشاعر العباسي يقصد إلى الممدوح التركي أو الفارسي فيتغزل بدعد ويهيم بدعد، في أبيات طوال حتى يصل إلى الممدوح وقد أضناه التعب؟وكان الشاعر الجاهلي يقطع الفيافي والقفار على ظهور الإبل، فيصف عناءه، ويصف طريقه الوعر، ويصف هزال ناقته، وهو في ذلك صادق كل الصدق؛ ولكن ما شأن مسلم بن الوليد وأبي نواس وأبي تمام والبحتري، والممدوح في بغداد والمادح في بغداد،
والشاعر يسير على رجله خطوات ليصل إلى الممدوح فلماذا يحشر في الوسط ناقة وبيداء ونحو ذلك؟
وكان الشاعر الجاهلي يخرج للبادية، ويصعد الجبال ويهبط الوديان، ويصيد الوحش، ويرى المها والغزلان، وعيون المها وجيد الغزلان، فيشتق تشبيهاته مما يرى ومما يحس ويلمس؛ ولكن أين المها في بغداد أما عليّ بن الجهم حين يقول:«عيون المها بين الرصافة والجسر»وأين المها والوعل في مصر والأندلس، حتى امتلأ بذلك كله شعر مصر والأندلس؟
وكان الشاعر يرحل في صحبه، فإذا وقف على دار محبوبته استوقف أصحابه يعينونه على البكاء؛ وقد حدث لأمر ما أن قال «امرؤ القيس» الجاهلي: «قفا نبك» بصيغة التثنية، وكان في هذا صادقًا؟ فما بال «حافظ إبراهيم» في مصر، ولا دار ولا أطلال ولا صحب، يقول في مدح الشيخ محمد عبده:
بكّرا صاحبيَّ يوم الإياب
وقفا بي في عين الشمس قفا بي
ويطول بي القول لو أخذت في تعداد هذه الأشياء التي لا علة لها إلا سلطان الأدب الجاهلي على الأدب العربي.ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتهم يقولون: «إن أجود الشعر أكذبه» أفليس كل هذا كذبًا في كذب؟
مشاركة من Wafa Bahri
، من كتاب