لقد وجد في العصر العباسي لأول عهده معسكران: معسكر يدعو إلى القديم وعدم الحيدة عنه، ومعسكر يدعو إلى التجديد وعدم التقليد؛ فكان زعماء المعسكر الأول أمثال الأصمعي، وأبي عمرو بن العلاء، وابن الأعرابي، وكان هؤلاء رواةً أكثر منهم أدباء، وكانوا علماء لغة أكثر منهم نقدة أدب؛ فغلب عليهم بطبيعة ثقافتهم أن يتعصبوا للقديم وخاصة الشعر الجاهلي، وكان أبو عمرو بن العلاء يرفض الاحتجاج حتى يشعر الأمويين، ولا يقر بفضلٍ للمحدَثين: ويقول عن المحدَثين: «ماكان عندهم من حسن فقد سُبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم». وربما أعجبه شعر جرير أو الفرزدق فيقول: «لقد حسُنَ شعر هذا المولّد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته».
وقرأ رجل على ابن الأعرابي أرجوزة لأبي تمام على أنها لبعض الهذليين فقال: اكتب لي هذه. فكتبها ثم قال له: إنها لأبي تمام فقال: «خَرِّقْ خَرِّقْ» ومثل هذا كثير.
وأما المعسكر الثاني فكان يدعو إلى استحسان الحسَن القديم كان أو لمحدَث، واستقباح القبيح لقديم كان أو لمحدَث، وكان من هؤلاء أبو نواس،
_.......
ولكن هذه الحرب انتهت مع الأسف بنصرة الدعاة إلى القديم. والسبب في ذلك أنهم كانوا أكثر بالخلفاء اتصالًا، وأكثر أتباعًا وأشياعًا، وأنهم من مكرهم صبغوا دعوتهم صبغة دينية، فقالوا: إن الشعر الجاهلي هو أحد المصادر في تفسير القرآن، وعليه نعتمد في شرح المفردات وبيان الأساليب. وفاتهم أن الاحتفاظ بالشعر الجاهلي لهذه الأغراض لا ينافي مسايرة الأدب للزمان والمكان. على كل حال نجحت دعوتهم، وأخفتوا صوت مخالفهم، وساد في هذا العصر تقديس الشعر الجاهلي وكل شيء جاهلي. وقد عجب الجاحظ عجبي هذا في كتاب «الحيوان»، فقد ذكر أن غالب بن صَعْصَعَة كان أكرم من حاتم، ولكنه لم يشتهر شهرته؛ لأن غالبًا كان إسلاميًّا وحاتمًا كان جاهليًّا «والناس بمآثر العرب في الجاهلية أشد كلفًا»، وتعجب فقال: «ما بال أيام الإسلام ورجالها لم تكن أكبر في النفوس وأجل في الصدور من رجال الجاهلية مع عظم ما مَلَك المسلمون وجادت به أنفسهم!» ومهما اختلفت الأسباب فقد كانت هذه هي النتيجة: غلبة الأدب الجاهلي، وسطوته، وتقييد الأدب العربي بكل القيود التي قيد بها الأدب الجاهلي، ولعلني لا أجد أوضح تعبيرًا عن ذلك من ابن قتيبة، مع أنه كان يزعم أنه من المجددين، إذ يقول: «ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين، فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان؛ لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرِد على المياه العِذَاب الجارية؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جَرَوا على قطع منابت الشِّيح والعَرار». اللهم إن هذه دعوة لم يُفسد الأدبَ مثُلها، فهو وأمثاله يطلبون إذا ركب الشاعر طيارة أن يتغزل في الناقة، وإذا شم وردًا أن يتغزل في العرار،
وإذا سكن قصرًا أن يتغزل في الأطلال، وإذا عشق ثريا أن يتغزل في هند.
فأين إذًا صدق العاطفة وصدق الوصف، وأين حرية الأديب، وأين دعوى أن الأدب سجل الحياة؟
مشاركة من Wafa Bahri
، من كتاب