قلعة النسور "آلموت" > اقتباسات من رواية قلعة النسور "آلموت" > اقتباس

ظللت أنا على رأيي. لكن تلك التجربة، وتجارب أخرى كثيرة، نبهتني وفتحت عيني.

تعلمت أن الناس غير مبالين وكسالى ولا يستحقون عناء التضحية لأجلهم. لقد ناديتهم ودعوتهم بلا جدوى. أتحسب أن السواد الأعظم من الناس يعبأ بالحقيقة؟ لا، على الإطلاق! إنه يريد دعته وأكاذيب يغذي بها خياله. أم تحسب أنه يهتم بالعدالة؟ إنه يسخر منها شرط أن تسبع مصالحه الشخصية، لم أرغب في أن أتعلل بالوهم أكثر.

وبما أن البشر هكذا، فلنستغل مواطن ضعفهم لبلوغ هدفنا السامي، الذي يخدم أيضاً مصلحتهم.. لكنهم غير قادرين على الإدراك! في الحقيقة، لقد طرقت باب البلاهة والسذاجة البشرية. راهنت على النزوع للشهوة والرغبات الأنانية للناس.

وانفتحت الأبواب على مصاريعها أمامي. أصبحت نبياً شعبياً.. وهو نفسه الذي أردت الانضمام تحت لوائه. واليوم، تهرع الحشود إلي. لقد أحرقت جميع سفني: ولذلك علي التقدم إلى الأمام، دائماً إلى الأمام، إلى أن تتقوض السلطنة السلجوقية.. لاريب أنك تجد صعوبة في فهمي؟...

كان ابن طاهر يصغي إليه محملقاً بعينين غير مصدقتين. كان لا يتوقع أبداً أن يرى الحسن يبرر تصرفاته، على الأقل ألّا يبررها على هذا النحو! لم يكن الحسن قد انتهى بعد...

...ولا تحدثني عن الشجاعة المزعومة لأصدقائك الفدائيين! فقد عشت سني عمري الستين أخاطر برأسي على الدوام.

وصدقني أني لو عرفت أن موتي يمكن أن يخلص عرش إيران المجيد من الطغاة الغرباء لألقيت بنفسي إليه دون انتظار أي فردوس جزاء لي.

لكني رفضت أيضاً أن أخدع نفسي: فأنا أعلم أنه إن أطيح بأحد الطعاة، فسيحل آخر محله. في الواقع، لم يكن موتي في ذلك الوقت ليفيد أحداً.

فكان علي أن أتخذ منحى آخر وذلك بأن أعثر على عزائم قادرة على التضحيات الجسام..

لأجني أنا نفسي ثمار إخلاصها. كان علي اختيار أذرع قادرة على تسديد الضربات بدلاً عني إلى الهامات الرفيعة المقام.

لكن ما من أحد أراد ذلك طوعاً. وما من أحد كان يعي واجبه أو فيه من الإباء ما يكفي للتضحيات بحياته في سبيل غايات سامية.

حينئذ لجأت إلى طريقة أخرى. تلك الطريقة.. أنت تعرفها: إنها الجنة المصطنعة التي اختلقتها في الجانب الآخر من تلك الصخور، مجدداً حدائق ملوك الديلم، كما أسميتها أنت منذ قليل.

أين يبدأ الوهم في الحياة، وأين تنتهي الحقيقة؟ إنه أمر يصعب قوله. لازلت صغيراً لتفهم ذلك. لكن لو كنت في عمري! لأدركت أن جنة كل إنسان ليست سوى سراب رغبة خالصة. والمباهج التي يشعر بها في تلك الجنة هي بالنسبة إليه مباهج حقيقية، لايرغب بأكثر منها. ولو أنك لم تدرك حيلتي، لكنت مت سعيداً، تحمل اليقين ذاته الذي مات وهو يحمله سليمان ويوسف.

هز ابن طاهر رأسه مذهولاً:

إذا صدقتك، فهذا يعني أن المعرفة ستكون للإنسان هدية مرعبة..

أتعرف ماهو جدار الأعراف؟

إن لك أسباباً وجيهة لتعلم أني أعرفه، ياسيدنا. إنه الجدار الذي يفصل الجنة عن النار.

حسناً. قيل إن هذا الحائط أعد لاستقبال أولئك الذين ماتوا في سبيل قضية عظيمة، ولكن ضد إرادة الوالدين. إنهم لايستطيعون دخول الجنة، وهم لايستحقون جهنم.

نصيبهم أن يتأملوا من فوق كلا الجانبين. ذلك ليعلموا! أجل، إن الأعراف هي تشبيه لموقف جميع أولئك الذين تفتحت أعينهم ولديهم الشجاعة ليطبقوا سلوكهم على ما يعرفون! انظر! عندما آمنت، كنتَ في السماء! والأن وأنت تدرك، وأنت تشك، ها أنت في الجحيم! وعلى سور الأعراف، لامكان للفرح ولا لخيبة الأمل.

الأعراف هي المكان الذي يتساوى فيه الخير مع الشر.

والطريق المؤدي إليها طويل ووعر. وقلائل هم الذين أتيح لهم استشفافه.

وأقل منهم الذين، وقد استشفوه، وتجرؤوا على المتابعة حتى نهاية الطريق.

لأن الذين يجدون أنفسهم فوق هم وحيدون، منفصلون إلى الأبد عن نظرائهم.

وليبقوا على ذلك الارتفاع، عليهم أن يقسّوا قلوبهم..

أتفهمني الأن؟

تنهد ابن طاهر وقال:

هذا كله فظيع

ما الذي يبدو لك شديد الفظاعة؟

أن تكون المعرفة هكذا.. وأن تأتي متأخرة جداً. إذا صدقتك أستطيع الآن أن أبدأ حياتي..

غمره الحسن بنظرة متوقدة. واستنار وجهه. ومع ذلك فإن ريبة خفيفة أرعشت صوته حينما جازف بهذا السؤال:

وماذا ستفعل اعتباراً من هذ اللحظة إن كان عليك أن "تبدأ" حياتك؟

سأحاول أولاً أن "أعرف".. وسأبدأ بقراءة ما استطاعت عقول الماضي العظيمة أن تعرفه قلبي.

أريد أن أدرس جميع العلوم، وأن أتعمق في أسرار الكون والطبيعة. سأزور المدارس الشهيرة، وسأنقلب في المكتبات..

ابتسم الحسن.

والحب؟ أنسيته؟

تجهم وجه ابن طاهر.

سأتجنب هذا الشر. فالمرأة لاذمة لها.

عجباً، عجباً! ومن أين أتتك هذه المعرفة العميقة؟

إنك تعرف كما أعرف من أين أتتني.

أتقصد مريم؟ اعلم أنها التمست الرحمة لك طويلاً. لكم جميعاً!

واليوم قضت نحبها. لقد قطعت شرايينها: فولت حياتها ودمها معاً..

أخذ ابن طاهر يرتعش: وفجأة اعتصر الحزن قلبه مجدداً.. أجل إنه لازال يحبها!

ذلك الذي يريد تسوّر الأعراف عليه أن يكون حراً أيضاً عند الحب.

بوسعي أن أفهم.. حتى هذا!

ما رأيك فيّ الأن؟

ابتسم ابن طاهر.

أصبت أكثر قرباً إلي.. قرباً مفزعاً.

أتفهم الآن ماذا يعني الطواف في أرجاء العالم خلال أربعين سنة وفي القلب مشروع عظيم؟ وهل تفهم أيضاً ماذا يعني البحث خلال عشرين سنة عن إمكانية تحيقيق حلم كبير؟ حلم و مشروع كهذين هما مثل أمر صادر عن قائد خفي. إن الناس الذين يحيطون بك يشبهون آنذاك جيشاً عدواً يحاصر قلعة. ويجب الخروج حياً من أسوارها إن أريد تفحيم هذا الأمر وسط الجنود الأعداء. يجب أن يكون المرء شجاعاً، لكن عليه أن ينقذ رأسه أيضاً. عليه أن يكون جسوراً لكن حذراً في نفس الوقت... أتتبين ذلك بوضوح؟

لكني أرى أنك تود فتح أعين الذين يصغون إليك....

ألا زلت تعتقد أني مجرم بغيض؟

تعلم جيداً أن هذه الكلمة لم يعد لها معنى الآ،.

هل ستكون لديك الشجاعة للصعود إلى الأعراف؟

لقد استطعت أن ترسخ فيّ هذا الهوى حتى وأنا عاجز عن فعل أي شيء...

مشى الحسن نحوه وقطع وثاقه.

انهض، إنك حر.

حملق ابن طاهر وتلعثم قائلاً:

ماذا تقصد؟ أنا لا أفهم.

أنت حر!

كيف، حر؟ أنا؟ أنسيت أني جئت لقتلك؟

إن ابن طاهر قد مات. واليوم بوسعك أن تحمل من جديد اسمك الحقيقي: عوني. لقد بدأت تسلق الأعراف. والذئاب لا تأكل بعضها.

أخذ ابن طاهر ينتحب. وارتمى على قدميه.

اغفر لي! اغفر لي!..

ارحل بعيداً عن هنا، يا بني. تعلم وتحرّ المعرفة. ولاتتراجع أمام شيء. ارفض كل حكم مسبق. ولاتنظر لشيء على انه رفيع رفعة عظيمة ولا على أنه منحط انحطاطاً ذميماً. انهمك بكليتك في كل شيء. كن شجاعاً. وعندما ترى أن العالم لم يعد بمقدوره أن يقدم لك شيئاً جديداً. ارجع آنذاك. ربما أكون ميتاً. لكن المخلصين لي باقون.

ستكون موضع ترحيب، سأحرص على ذلك. وفي تلك الساعة من حياتك ستكون فوق سور الأعراف....

أخذ ابن طاهر يقبل يده باهتياج. أنهضه الحسن ونظر طويلاً في أعماق عينيه. ثم عانقه وقبله مخفياً دموعه.

بني... قال متلعثماً. إن قلبي العجوز قد جعل فرحه فيك. سأعطيك مالاً. وسأحرص على أن تأخذ كل ما ترغب...

كان ابن طاهر قد أسقط في يده.

هل بإبمكاني أن أتأمل حدائقك ثانية؟

تعال معي إلى أعلى هذا البرج.

صعدا إلى السطح, كانت روعة البستان الرحب منبسطة تحت أقدامهما. تنهد ابن طاهر. لقد زالت العقبة الأخيرة من أعماقه. وضع رأسه على الحاجز وشرع ينتحب دون تحفظ..

عاد الاثنان إلى حيث كانا، وأعطى الحسن أوامره اللازمة. جمع الفتى حوائجه ولم ينس أشعاره: فهذه الذكريات غالية عليه أكثر من نفسه، غادر القصر مسلحاً، ومزوداً بالمال ومعه حمار حُمل بمتاع هائل.

كانت الشمس تغمره بأشعتها. وعيناه تنظران إلى كل ما يحيط به نظرات دهشة. كأن العالم اتخذ ألواناً جديدة! شعر أنه يراه للمرة الأولى.

أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة. لقد مات ابن طاهر الفدائي. وها هو عوني الفيلسوف ينطلق في طريق طويل...

مشاركة من abd rsh ، من كتاب

قلعة النسور "آلموت"

هذا الاقتباس من رواية