نداهة وائل السمري .. سر لعنة الخواجة دانينوس
عندما تختلط الأوراق تتوه الحقائق وتظل التساؤلات حائرة بلا إجابة شافية ، من الضحايا ومن الجناة ؟ من الذين أنصفهم التاريخ ومن الذين سقطوا سهواً أو عمدًا مع سبق الإصرار والترصد من بين صفحاته؟
مثل نداهة تأخذ المرء بعيدًا تبدو رواية "لعنة الخواجة" للكاتب والشاعر وائل السمري والتي صدرت حديثًا حيث تأخذنا بعيدًا في خلطة سردية بالغة التشويق و تكشف النقاب للمرة الأولى عن شخصية لعبت دورًا بالغ الأهمية والتأثير في تاريخ مصر المعاصر دون أن نعرف عنها شيئاً وهو المهندس المصري المنحدر من أصول يونانية "أدريان دانينوس".
من الغلاف يجد القراء أنفسهم في شغف لمعرفة من هذا الشخص الغريب الذي يتوسط الساعة ولماذا يعطينا ظهره وسر تلك الوثائق التي تبدو باهتة في الخلفية ؟، لا يتركنا وائل السمري طويلاً حيث يضعنا من الفقرة الأولى في قلب الحدث الذي نحن مقبلون عليه " شدة وتزول".
اشتباك التاريخ مع الجغرافيا
في لعنة الخواجة نجد الواقعي في مواجهة التاريخي والإنساني وهو يتصادم مع الرسمي والأكاذيب في مقابل الحقائق كما نرى منظومات القيم الراسخة في المجتمع المصري وهي تخوض معركتها بشرف في وجه محاولات التجريف والتسطيح.
لا تدور لعنة الخواجة داخل إطار زماني أو مكاني محدد يحصر الشخصية في إطار ضيق ،الحدود الفاصلة تتهاوى سريعًا بين الماضي والحاضروهو ما جعلنا نستشعر ونحن نغوص بين السطور بأننا أمام سردية عابرة لحدود الزمان والمكان حيث نجد أنفسنا باستمرار مع شخوص العمل في رحلة بالغة التشويق والإثارة ما بين شوارع القاهرة وفرنسا وإيطاليا حيث يتم بالاستمرار الانتقال من الماضي إلى الحاضر والعكس صعودًا وهبوطًا مع حركة الشخصيات وتطور الحدث.
من قلب الحارة المصرية بكل موروثها الشعبي تنطلق الرواية التي تغوص في أعماق الشخصية المصرية حيث نجح الكاتب في إبراز التحولات التي طفت على السطح عبر مدى زمني طويل جعلنا نلمس حجم الهوة بين أولئك الذين ضحوا بكل ما يملكون من أجل مشروع وطني آمنوا به وبين الذين حاولوا أن ينسبوا لأنفسهم ما ليس لهم.
أكثر من بطل وأكثر من ضحية
لا تقف رواية لعنة الخواجة عند حدود تشابكات التاريخ والجغرافيا والتي جعلت من مصر عبر تاريخها قبلة لكل شعوب العالم حيث نجد في العمل كثير من الأبطال والضحايا جميعهم من لحم ودم نراهم وهم يتحركون أمامنا فوق السطور.
ناصر الصحفي ابن الواقع بكل تناقضاته وتعقيداته يجد نفسه وحيدًا في قلب محنة كبيرة تعصف به وبأسرته الصغيرة دون سابق إنذار ، يفقد معها عمله ويصبح بين عشية وضحاها مهددًا بالسجن لكنه يصر حتى النهاية على أن ينتصر لمبادئه ويرفض بإصرار الإفصاح عن المصدر الذي سرب له المعلومات.
ناصر لا يدفع الثمن بمفرده تشقى وتتألم معه زوجته " عالية"وصغيرتيه ولكنه لا يستسلم يعاند نفسه ويقاوم وهو يدفع في كل لحظة الثمن غاليًا بسبب مهنة قست عليه كثيرًا وهو ما يتذكره مع كل لحظة تداهمه فيها آلام الظهر بقوة.
الكوميديا في مواجهة الدراما
حرص وائل السمري على مقادير الخلطة السردية بدقة لذا نجد توليفة من المشاهد الكوميدية والشخصيات خفيفة الظل التي حرص على أن يكون لها نصيب في رواية لعنة الخواجة حتى لا يجد القارىء نفسه محاصرًا بجرعات درامية صعبة الهضم وهنا تظهر شخصية مدحت والذي يمثل صوت الضمير كما يمكن في هذا السياق أيضًا أن نفهم وجود شخصية خفيفة الظل مثل الشيخ الضرير رؤوف الشلشلموني وهو أحد شيوخ الفتة والذين لم يكن يهمهم شيئًا في الجنازات سوى مقدار ما يتناولونه من لحوم يجهزون عليها دون مضخ حتى أن الرجل لجأ إلى جعل مهمة مساعدة تنبيه إذا بالغ في الأكل !
في الوقت نفسه نجد أنفسنا أمام شخصية الشيخ " فورة" الذي تم سحقه بعد أن وقع في حب فتاة من بنات أحدى العائلات الكبرى، تمامًا مثل "دانينوس" الجريح الذي بدا أشبه بنبي كذبه قومه وناصر الذي اجتمع كل الناس على خذلانه.
سردية بالوثائق
تعرض أدريان دانينوس لظلم بين حيًا وميتًا فالرجل الذي كان متيمًا بحب مصر وقدم لها الكثير مات وطمست سيرته وكأنه لم يكن هنا يومًا ما ، أصبح مجرد ضحية جديدة لتاريخ لا يعترف في أوقات كثيرة سوى بمن يجيدون الظهور تحت الأضواء، لكن الوثائق الخاصة بـ دانينوس وقعت في يد صحفي محترف مثل وائل السمري.
كان في وسع السمري أن يصدر كتابًا تاريخياً بسهولة شديدة يحوي جميع الوثائق عن دانينوس الذي لا يعرفه أحد ولكنه اختار المهمة الأصعب وهي أن يضفر من مئات الوثائق عمل روائي،يحوي جهد معرفي يستحق قدرًا كبيرًا من الإشادة والتقدير.
لم يشأ السمري أن يقدم معلوماته لنا جافة عن دانينوس بعد كل هذه السنوات قرر أن يرفع الظلم عن الرجل بطريقته الخاصة، جعلنا نعيش معه انكساراته ونجاحاته وخيباته لحظة بلحظة وساعة بساعة لنراه أمام أعيننا وهو يُتهم بالجنون ورغم ذلك يصر على أن يسافر إلى دول أوروبا لجلب خبراء دوليين من أجل مشروع السد العالي الذي ضحى من أجله بكل ما يملك وللمفارقة فإن اللحظة نفسها شهدت بيع أثاث منزل الرجل في المزاد العلني.
الحب في مواجهة الإنكسار
في لعنة الخواجة نجد الحب الذي يبقى رغم كل شيء ، " عالية" هى طاقة النور التي يرى من خلالها ناصر ، القبلة التي يدور حولها في ظل العواصف التي تحيط به من كل جانب ، حتى عندما يقسو عليها في أشد لحظات حياته ضعفًا فإنه لايفعل ذلك إلا لأنه يحبها ، وهو الأمر الذي يشاركه في "دانينوس" مع زوجته التي تضحي من أجله بكل شيء.
الانتصار للمجانين
" لن نعيش في المستقبل أبدأ إلا إذا عرفنا الماضي ولن نعرف الماضي حتى نرد للمجانين اعتبارهم ونعترف أننا بدونهم سوف نغرق في الجمود والموت" بمثل هذا الاقتباس الصادم يلخص وائل السمري رسائله من رواية لعنة الخواجة، حانت اللحظة التي يجب أن يتم فيها إنصاف عظام ظلمهم التاريخ فجعلهم نسيًا منسيًا ،وإذا كان الحظ قد ابتسم لدنينوس بعد كل هذه السنوات بعد أن وضعه في طريق وائل السمري فخلده في رواية فارقة فإن العشرات مثله مازالوا في انتظار مخلصين جدد.