من سنوات أتذكر أحداثها ولا أتذكرها سمعت أغنية للممثل أحمد مكي تتحدث عن الادمان - قطر الحياة - ومن قبلها من بعد الثورة كنت أهوي السماع لزاب ثروت، وليس المميز في أغانيهم هو كلماتها التي ربما تبدوا تقليدية أو تُحاكي شيئاً عادياً، ولكنها الموسيقي الجديدة والطريقة المختلفة في أداء الأغنية ورتم التلحين الذي يبدوا كله جديداً ومختلفاً علي أي أُذن تسمعه.
لم أخرق حدودي الآمنة النمطية بتجريب السماع عن اختيار لمغنيين الراب الذين أجهلهم رغم شهرتهم الواسعة التي وصلني منها تصدرهم للترندات و صراعاتهم المستمرة وكذا بداياتهم الصعبة جداً والتي تُظهر معاناتهم النفسية علي جوانب كثيرة خاضوها حتي وصلوا إلي أن آمن الناس بهم ووضعوهم في قمة النجاح.
في ( فن الشارع )، يقدم لنا سيد عبد الحميد حكاية الراب كاملة، مُتمثلة في متابعتة لأجيال الراب المتعاقبة وبداية ظهورهم ومدي تعاطي السامعين معهم من أجيال استغربت هذا النوع الموسيقي ثم استهجنته ونبذته، حتي تشابكت الظروف في منح رواد هذا النوع الموسيقي فُرصة مُستحقة أثبتوا من خلالها جدارتهم بما يقدمونة من فن حتي وإن لم يُعترف به علي وجه أمثل لكنه يُلاقي قبولاً عند الشباب وهذا كفيل بزيادة انتشارة وتقبله.
شرح سيد كل المصطلحات المتعلقة بهذا النوع الموسيقي، ذكر أبعادها ونشأتها وأبرز روادها، إلي أن وصل بِنا في التسلسل الزمني إلي الجيل الحالي من عمالقة الراب المصريين، كان الكلام عنهم مُحدداً في إطار عام داخل الكتاب ثم فنّد سيد حكاياتهم في فصول خاصة ترتبط فيها قصصهم الفنية بمناحي حياتهم الشخصية والاجتماعية لينقل إلينا تجربة كاملة يُؤخذ منها الكثير.
من سنتين او اكثر تصدرت أغنية ويجز - البخت - مصادر البحث وقفزت علي قمة مواقع الأغاني وأصبحت شائعة بكثافة اضطرتني لسماعها، حينها لم أُعجب بها، ولأكون دقيقاً لم أفهم من كلماتها الكثير، بعد فترة عُدت إليها مُعجباً باللحن الموسيقي نفسه، وبعد مرات سماع مُتتالية أدركت المقصود من الكلمات وفهمتها بشكل أفضل وتقبلتها أيضاً.
وفي فترة مؤلمة مررت فيها باكتئاب صعب كنت أمُرُ إرادياً علي كل الأغنيات الحزينة التي سمعت، كُنت أبحث عن مواساة من نوع مختلف ولكن لم أعثر عليها في كل ما أعرف من أغنيات، وعندما تغيرت دفّة قائمة موسيقي الساوند كلاود تلقائياً سمعت
- أنا توهت - لـ أبيو أو أبيوسف، رُبما حدث معي نفس الذي حدث أثناء سماعي أغنية ويجز - البخت -، لكن حالة أبيوسف التي تُصدرها الأغنية طغت علي أي ملمح من ملامح الجهل بالكلمات، ولم يظهر من اللحن سوي أنه صديق بائس يُشاركك نفس الحسرة والألم ولكن بطريقة مختلفة جداً عن كل ما سمعت.
لا أنسي أبداً - أنا توهت - ولا الوقت الذي رافقتني فيه حتي أني سمعتها مِراراً وانا أقرأ الكتاب وأمُرُ بين صفحاته.
كلمة - دراسة - تعني بظاهرها تناولاً أكاديمياً جامداً وأسلوباً أُحادياً صِرفاً لا يخرج عن إطار الموضوع صاحب الدراسة، لكنّ سيد أضاف الكثير للتجربة بداية من الإسم - فن الشارع - والذي رغم اختصارة فإنه وصف دقيق للحالة التي صنعها الراب، مروراً بتفسير الكلمات والذي أعجبني جداً من خلال جُملة عبقرية ذكرها الكاتب - الأغنية كالرواية والكتاب هي بالآخر فن يمكن قراءتة وتأملة والاستبحار فيه - وانتهاءًا بالسياقات النفسية والاجتماعية التي أثرت بشكل كبير علي كِبار هذا النوع من الفن فضلاً عن كونها صنعتهم وكانت الحافز الأكبر لصدارتهم المشهد في فن الراب.
دراسة جميلة يظهر في كتابتها الوعي والإدراك المناسبين والرؤية المهمة المطروحة بسلاسة كبيرة دون مط أو تطويل بلا داعي أو حتي تعميق للألفاظ والمعاني بشكل فظ، يُحسب كل ذلك لسيد فكرةً وتنفيذاً وأسلوباً ومعني، وكأنه يُتمم بهذا الكتاب انتصاراً خاصاً لجيل مُتمرد سُلِبَ منه كل شيء ولكنه مازال يُحاول في ساحتة الخاصة أن ينجوا بالأمل.