أزعم أننى كنت من أوائل من قرأوا رواية د. أسامة الشاذلى الأولى؛ (أوراق شمعون المصرى) ولقد راقت لى كثيراً وانبهرت بها وبفكرتها وبأسلوب السرد والكتابة واللغة الجميلة وبالتاريخ والجهد المبذول فى البحث والتقصى عن الأحداث والأماكن والشخصيات التى تدور فى فلكها الرواية وقلت وقتها أنها رواية ستبقى وستترك أثراً .
وكان من الطبيعى والمنطقى ان أكون متحمسة لقراءة العمل التالى لصاحبها ؛ عهد دميانة …نعم لقد اصبحت ثقتى فى الكاتب كبيرة بعد عمله الأول المبهر للغاية …
منذ الصفحات الأولى أدركت أن العمل مختلف عن أوراق شمعون .
الرواية تتحدث عن حقبة هامة وحرجة من تاريخ مصر ؛ أواخر حكم الدولة الفاطمية …بين ١١٤٦،١١٦١ م… ولكن يبدو ان للكاتب هاجس واهتمام محدد يشغله ؛ البحث عن الهوية بكل ماتعنيه …
يصعب تصنيف بعض الأعمال الأدبية ، منها هذه العمل؛ التاريخ هنا ركن أساسى فى الرواية ،امراء وخلفاء ومؤامرات وخيانات وقتل واغتيال قد يكون من أقرب الناس …
بعض الاحداث التى تقترب من السلطة تم تناولها من بعيد وبعضها اقترب منها الكاتب وبشدة لأنها تمثل خلفية رئيسية لأحوال المجتمع المصرى فى ذلك الوقت بكل فئاته وطبقاته ومذاهبه .
كيف حافظ المصريون على مذهبهم السنى فى مقابل سيطرة الفاطميين بمذهبهم الشيعى ؟
كيف كانت أحوال أقباط مصر فى ذلك الوقت وكيف تعايش المصريون مسلمون وأقباط ؟
مابين مناطق مصر المختلفة تدور أحداث الرواية ؛ قوص ،الاسكندرية ،دير أبى حنس فى الصحراء ، الفسطاط، ومع شخصيات من عامة الشعب مع اختلاف ديانتهم ومذاهبهم وشخصيات اخرى من الطبقة الحاكمة وممن يقتربون منها نعيش حكاية انسانية بكل مراحلها من آمن وطمأنينة وخوف وتخفى وسجن وعقاب، وهروب للبحث عن هوية تاه اصحابها عنها…
احداث الرواية شيقة والخلفية التاريخية لتلك الحقبة لم يُكتب عنها من قبل إلا القليل وإن كنت أعتقد انها كانت تحتاج لأن يفرد لها مساحة أكبر لتتضح الصورة للقارئ بصورة أكثر من ذلك …
اللغة فصحى جميلة وبسيطة وبها بعض الالفاظ والعبارات التى تلائم لغة المصريين وخاصة الأقباط فى تلك الحقبة …
السرد رائع كعهدى مع الكاتب فى رائعته اوراق شمعون ، رغم ان الرواية ٤٠٠ ص الا أنها سهلة سلسة فى قراءتها لا تشعر معها بالملل رغم بعض الاطالة فى بعض الاجزاء إلا أن سلاسة الحكى وجمال اللغة تجعل القراءة ممتعة .والموضوع نفسه شائك وشيق فى آن واحد...نجح الكاتب فى أن يكون محايداً فى طرحه وإثارته لموضوع إختلاف المذاهب وتعصب أصحابها...
رواية تؤكد حرص د. أسامة على بذل الجهد الكبير للوصول الى أصل وحقيقة بعض الأحداث التاريخية لينجح في دمجها مع القصص الإنسانية التي ينسجها لتلائم تلك الفترة...
بعض العبارات والاقتباسات التى لفتت نظرى فى الرواية :
*أغلب الناس لا تسال فى أمور الدين وإنما فى أمور الدنيا ،ورغم أن عظته كانت فى الزهد وعدم التنعم ، ولكنه يعلم أن الزهد هو رفاهية القادر ، وقدر العاجز .
* فقد كان يرى أن معاناة الناس فى العالم قدصنعها الولاة ، ورجال الدين على السواء .
* اللعنة على المحب حين يُغضى عينيه على قذى الشوق ،فيعيش كفيفاً متخبطاً فى أوهامه .
* قول الحق يُحرر الإنسان ،ويُحرر خيال الناس أيضاً ،فيصنعون الأمجاد لمن ينطق به حين تخرس الألسنة ،ولكنهم يصنعونها عادة بعد أن يصمت إلى الأبد !
* كان رجلاً يعتقد مايقول ،ويقول مايعتقد، فكأنما ملك زمام أمره .
* تعلم من أبيه قديماً أن ولاء الجندى يكون للدين والأرض وليس للمذهب .
* وهل سُمى الشعر شعراً إلا لأنه فيض من الشعور ؟ اللسان لا يعجز عن النطق بما يشعر به القلب .
* لن ينصلح حال هذه الأمة إلا إذا أدرك الولاة والخلفاء أن أهل مصر أولى بجيشها وبالدفاع عنها .
* إن القلب يألف كل فقد ، إلا فقدان من أحبنا فخذلناه !
* اليقين يأتى من الإدراك ، والإدراك متغير وليس ثابتاً ! فما أُدركه أنا غير ماتدركينه أنتِ ، فكيف يكون اليقين واحداً لا يحتمل الخطأ ؟
* لماذا نبنى توقعاتنا على أسس من الرمال ،فإذا انهارت ، ألقينا باللوم على الآخرين ،ولم نلُم أنفسنا على أننا توقعنا لها الثبات .
* لم تكن تعلم أن شعور التسامح قد ينسحق أمام شعور القهر والظلم ،كما أن التسامح المقرون بالضعف له مذاق مرير كالعلقم .
* ففى أوقات المحن تهتز القيم أمام موجات اليأس ، ثم تأتى الأفعال الصالحة من البعض كطوق نجاة ليحمى تلك القيم من الغرق .
* كل سجان هو سجين ، فكلاهما يحيا الظلام نفسه ، وكلاهما يتنفس العطن نفسه ،والأهم : أن كليهما يتحرك بإرادة غيره . ربما يزيد فى السجان شعور بالسلطة على السجين ، ولكنها سلطة وهمية ،سرعان ماتخبو نشوتها حين يكون السجين ضعيفاً ذليلاً ، لايثير لديه أى شعور بالتحدى .
* وبذلك المقتبس الأخير من كتاب (إخوان الصفا ) الذى كان ينسخه يوسف -احد أبطال الرواية -أختم مراجعتى هذه :
* "وأعلم أن أصحاب الجدل والمناظرات ومَن يطلب المنافسة فى الرياسة ، اخترعوا من أنفسهم فى الديانات والشرائع أشياء كثيرة لم يأتِ بها الأنبياء عليهم السلام ، وما أمروا بها ، ولكنهم ابتدعوها وقالوا للعوام من الناس :هذه سنة الرسل عليهم السلام وسيرتهم ،وحسٓنوا ذلك لأنفسهم حتى ظنوا أن ماقد ابتدعوه حقيقة ، وظنوا بسخافة عقولهم أن الله قد ترك أمر الشريعة وفرائض الديانة ناقصة حتى يحتاج هؤلاء إلى أن يبيِنوه بأرآئهم الفاسدة وقياساتهم الكاذبة واجتهادهم الباطل . واعلم أنه لا يصلح بين أهل الديانات ولا تُزيل من العداوات والأحقاد إلا المعرفة بالله الحق ، الذى يجمعهم على كلمة التقوى ، ويدعوهم إلى سبيل الخلاص والرشاد ".