"مقامرة على شرف الليدي ميتسي.. علاقات متشابكة في زمان آخر اجتمعت بآلام الوحدة"
تتعدد المناصب بين البشر، وبيئاتهم، ورغباتهم، لكن مهما اختلفوا تظل هناك احتياجات راسخة في النفوس، لا تتأثر بزمان ولا مكان، وقد يتسبب هذا الضعف في ظلم وأذى ضد كثير من الأطراف دون معرفة الجاني من البريء.
الحكاية هنا تدور في زمن بعيد، حيث البيوت البسيطة، والخيول، وزي الملوك والملكات، والطربوش، ورغم أنها تفاصيل تبدو بعيدة إلا أن الحكاية قريبة، وتمسّ وجدان القارئ ويصبح جزءًا منها ومن شخصياتها.
يبدأ النص الروائي بعتبة أكثر من رائعة، شخص يتوفى، وبجانبه نعثر على صورة فوتوغرافية، هذه الصورة هي مفتاح التشويق والفضول الذي دفع تساؤلات كثيرة أهمها: ما الذي يجمع هذا الخيل بهذه السيدة وهذه الجثة!
بسرد روائي ممتع مكثف، بعيد عن أي إسهاب، ولغة مناسبة رائعة، نتعرف على هذه العلاقات المتباعدة كيف اجتمعت معًا، وكيف أثرت الطروف في حياتهم، حتى صاروا في رباط جبري يمسّهم عاجزين عن التحرر منه.
شخصيات الرواية بديعة، حسيّة، وكلها لها جانب إنساني راقٍ جميل من "سليم أفندي" إلى "الليدي ميتسي". في رأيي أفضل شخصية في النص هي شخصية المراهن "مرعي المصري"، تركيبة متناقضة مبهرة ومقنعة، يضعف بين الحب وشهوة الربح، شهم في الأوقات العصيبة، يغتاله طمع في أوقات أخرى، شخصية لها تفاصيل استثنائية ومميزة جعلتها محور الأحداث، وقدمت النص بشكل مبتكر وممتع، وجعلتني متعاطف معها بالتحديد مهما كرهته باقي الشخصيات.
في ذاك الزمان البيئة مختلفة، والناس مختلفون عن عصرنا الحالي، وهنا جاء الدور القوي للغة الحوار، فاستخدام اللهجة العامية والاعتماد على ألفاظ مهمة عن الخيول والرتب العسكرية والأماكن جاء موفقًا للغاية، وأضاف الكثير من التفاصيل الواقعية للنص، جعلت القارئ يعيش هذا العالم بكل تفاصيله، ولو كان استخدام الحوار بالفصحى أعتقد كان سيخسر النص كثيرًا من جودته وصدقه.
مع تطور الأحداث نتعلق بالشخصيات، ورغم إيقاع الأحداث السريع والممتع إلا أنه لم يُفقد النص نزعته التأملية في أحوال الشخصيات ووجدانها، فسمعت صهيل وحمحمة الخيول في السباق وكيف خسرت الفرس، وتأثرت بمرض "عايدة" وكيف ستتجاوز هذه الصعاب، وسمعت صراخ "هوزان" وتأثرت بحاله وهو يُضرب بكل قسوة، إضافة إلى وجود شخصيات تاريخية قاربة من الأذهان مثل شخصية "البارون إمبان" الذي وضعنا أمام زمانه وتخيلنا ما يدور حوله وصار النص تاريخيًا لا يتجرد من إنسانيته. كل الأحداث في خدمة الشخصيات، وكل الشخصيات في خدمة الأحداث، فجاء النص الروائي متماسكًا، واثقًا من أدواته، صادقًا في مشاعره.
ربما المشترك الأكبر بين الشخصيات هو الشعور بالوحدة، من "سليم أفندي" إلى "مرعي المصري" إلى "الليدي ميتسي"، الجميع يبحث عن شخص يكون بمثابة حصن الأمان المفقود: الأمل الذي يدفع للاستمرار وتجاوز المِحن، فمهما اختلفت السُلطة والمستوى يظل في كل من هؤلاء إنسان بسيط في جذوره.
عمل روائي عبقري، وصورة سينيمائية مبهرة، شاهدتها أمامي بكل تفاصيلها القوية، وتأثرت بكل شخصية، روائي متمكن من أدواته تمامًا مثل "مايسترو" يقود موسيقى متناغمة جميلة، وقدّم نصًا بديعًا، غني بتفاصيله، وفريد في متعته الأدبية.