الحرب في الشرق
ل زين عبد الهادي
الغلاف لمبنى مهدم وعلى إحدى الجدران علقت صورة لجمال عبد الناصر، لم تقع ولم تتحرك من مكانها من جراء الانفجارات ولو شعرة، بأعلى المبنى نرى جندي يمسك سلاحه، ولا ندري هل هو مصري أم محتل، بأسفل المبنى أطلال يقف عليها طفل على كتفيه جناحي فراشة، امرأتان أمام دبابة، رجل يمسك هراوة..وهناك كلمات حاولت اقرأها خلف المبنى كما لو كانت تشير إلى مكان هام ولكنني لم استطع سوى قراءة كايرو وقلت لعل العمل يكشف لي هذا أو يساعدني الكاتب..
وبالغلاف من الخلف كلمات شاعرية في حب بورسعيد والشتاء فيها..
يبدأ الكاتب روايته بكلمات من بريخت عن الحرب، ثم مقدمة لبريخت عن الحرب .. ثم يسطر اهداءً لمدينة بورسعيد يهدي فيه الكتاب من أجل شهداء الحروب ويخصص شهداء مدينة بورسعيد والمدينة التي وكما يقول:
"احتضنت الجميع وعانت كثيرا مِنْ كُلِّ من أحبَّها ومِمنْ لم يحبها، أن يعود لها حقها وقيمتها التاريخية كمدينة مصرية ذات صبغةٍ عالمية من أجل الإنسانية كلها في يوم قريب"
ثم يضع كلمات أخرى تشعرنا أنها حبًا في بورسعيد ويضع اسمه بأسفلها..
نحن أمام عائلة يمثل لهم الفونوغراف عضوًا بالعائلة، استمعوا فيه إلى كل ألوان الغناء، العربي والأجنبي.. الأم هجرت الغناء لتتزوج بعامل في مصنع الغزل والنسيج واتفقت مع زوجها على انجاب نصف دزينة من الأطفال:
❞ سيعلمونهم القراءة والموسيقى والرسم والخيال والحكايات، وسيطلقونهم كالعصافير في عالم آخر لم يعرفه أحد من قبل!!. ❝
تسكن تلك العائلة ببورسعيد المدينة الجميلة المتمدنة، التي تستلم الأفلام والاسطوانات الموسيقية في نفس أسبوع صدورها في أمريكا وأوروبا..
بورسعيد التي يقول عنها الكاتب:
"بورسعيد تمثل مقبرة ومسجدا وكنيسة ومعبدا لكل أرواح السكان في الألم، إنها رمز للإنسانية ككل في مواجهة عذاباتها وبهجتها".
تبدأ روايتنا بطفل يستيقظ باحثًا عن أمه زينب ليجدها فوق السطوح تغني بصوتها الخلاب، حبيب الروح وفيينا وهي تنشر الغسيل..كانت العلاقة بينه وبينها كأبن أكبر كما لو كان حبله السري معها لم ينقطع أبدًا..
يحدث الكاتب القارىء متحديًا أياه أنه سيقرأ ما يكتبه وسيرى أمورًا جنونية أصلية كما تقول جدته.. فهو يراها في كل شيء وفي كل مكان حوله، ترى من هم ومن هو
❞ذلك الرجل العالق في منطقة ما بين الذكريات والأحلام❝..
يسرد لنا البطل حكاياته في بيت يسكن فيه عدة عائلات، ويحكي عن سيده؛ جده ورحلات الصيد صيفًا وشتاءً، وذهابه معه على عربة الخضار لبيعه، كما يحكي عن سته؛ جدته التي حمته وخوفته من الشياطين في آن واحد..والتي يصف لنا طقوسها مع إعداد القهوة فأتذكر جدتي الحبيبة وطقوسها هي الأخرى..
وحكايات أخرى: هذا العم الذي لا يموت والعمة أمينة، ورحلة صيد الطيور مع الخال نصر وغيرهم..
قام البطل برسم ذكرياته عن بورسعيد في عشرات من كراسات الرسم، رسم فيها عالمه هناك بعدة ألوان، ولون البحر بألوان كثيرة منها الأسود المرعب ولم لا وهو يستمع إلى أحاديث والديه عما يقوله ويفعله عبد الناصر..
كان طفلًا دائم التساؤل ولم لا وهو يقول:
❞ كانت الأسئلة ترعبني، فقد كنت أصغر من أن أعرف الإجابة، لكني علمت أن أعظم ما يملكه الأطفال أسئلة الدهشة الأولى التي ليس لها إجابات حقيقية، كأنَّ الإجابات لا قيمة لها! ❝
وفي القاهرة حيث ترحل الأسرة يشعر الطفل بكراهيتها، باحثًا عن البحر وذكرياته الجميلة في مدينته، فيهزأ به التلاميذ في المدرسة ويعاقب من المدرسين..
إذ وكما يقول:
❞ لا شيء جميل في مدن لم تعرف معنى الطفولة. ❝
امتلئت الرواية بومضات تاريخية كثيرة وضعت بصورة شيقة ومختصرة، فنجد الكاتب يحكي تاريخًا هامًا عن اعتقال والده الذي أحب وآمن بناصر:
❞ كان الحال كله عجيبا في العالم، كنا ندافع عن أبوية عبد الناصر وكانت فرنسا تهاجم أبوية ديجول الذي ساعد في إعادة بناء فرنسا وعودتها منتصرة في الحرب العالمية الثانية، كل هذا تقوله كتب التاريخ، مالم تقله كتب التاريخ أن عاملا في مصنع الغزل والنسيج كاد أن يموت في السجن لأنه آمن بما يقوله آباؤه. ❝
وهكذا يذهب بنا الكاتب إلى تاريخ وذكريات وحياة عاشها في مدينته الجميلة، وينهي روايته بذكرى بورسعيدية جميلة..
لغة الكاتب مرهفة شفافة أعجبتني كثيرًا فما أجمل مقارنة المواطن الذي عاش ببورسعيد بمن ذهب ليعيش في القاهرة وما أجمل كلماته عن بورسعيد إذ يقول:
"الصباحُ هناك يُعيدُ كتابة تاريخ الحياة، الشمسُ لا أثر لها في سمائنا الصغيرة، الأمطارُ خفيفة حانية ككفي أمي حين تأخذُ وجهي بين يديها الصغيرتين الدافئتين الجميلتين، نسماتٌ باردةٌ تتحركُ في هدوء بين الشوارع، وغيمٌ إلهيٌ لا يدعُ مكانا للرؤية، يخترقُ البيوت ويتراكم على النوافذ يحجبُ كلَّ شيء، لكنه لا يحجبُ - أبدا - الخيال.
شكرًا للكاتب على هذا العمل الرائع، مع تمنياتي له بمزيد من الإبداع..