في البداية أود أن أذكر أننا أمام رواية تتجلى قوتها في أن الراوي هنا هو طفل صغير
لا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك حدثا أشد إيلام علي النفس البشرية من الحرب وما تتركه من أثر مظلم داخلنا .
الحقيقة أني لا أجد من الكلمات ما يساعدني علي وصف ويلاتها ومدى تأثيرها الكارثي وما تخلفه وراءها من دمار.
يأخذنا الطفل الراوي إلى عالمة ليحدثنا عن واقع الحياة التي عاشها تحت وطأة الحرب وما تبعها من تدمير و تهجير وانتقاله من مدينته الجميلة بورسعيد الي القاهرة تلك المدينة ذات السماء الضيقة كما وصفها
ربما رأها كذلك بعين طفل لم يستطع أن يمارس فيها براءته كبقية أطفال مدينته ويستمتع باللعب بطائرتة الورقية فقام بتمزيقها وكان هذا اعتراض واضح منه برفضه التأقلم مع تلك الحياة الجديدة ...
هذا الطفل الذي بالكاد لامست اقدامه الارض منذ بضع سنوات...
هنا في رواية "الحرب في الشرق" ستجد الكثير من الأحداث التي يرويها لنا بدقة بدءا من وصفه للشتاء والسماء والبيوت وصولا الي تعلقه الشديد بامه التي يحكي لنا عن صوتها العذب وهي تغني أغاني ليلي مراد واسمهان وماتحدثه من تناغم بينهما...
اجدني اقف امام فيلم قديم ابيض واسود له خلفية موسيقية كلاسيكية تأخذني وتظل تلازمني طيلة احداث الرواية
طفل يحمل في داخله الكثير من المشاعر مع القليل من الاماكن والكثير الكثير من التفاصيل التي جعلتني أقرأ وكأنني اري وكأنني اسمع اقرأ وكأنني انتقلت بروحي عبر الزمن لمكان اخر حيث يحكي لي هذا الطفل عن عالمة وعائلته.
وبلدته الجميلة كل شيء هاديء الي ان تعصف الحرب...
منذ البداية وحتي الختام اجد هذا الطفل فى حالة بحث دائم ينبش بين ذكريات بدت غير واضحة وكأنها تختفي خلف ضباب ثقيل يحاول ان ينتزع منها ما قد يساعده ويدله علي طريق يعيده الي ذلك الوطن المسلوب والمتمثل في مدينته بورسعيد حتي يجد الامان الذي سلب منه...
يتحدث عن بيت جده كان بيت واحد يجمع عائلة كبيرة، فيتشارك الأجداد والآباء والعمات والأبناء حياة واحدة، وسقفاً واحداَ وطعاماً واحداً .يجلسون جميعا حول طبلية ترفض ارتداء الاقنعة فتنكر طلائها وتعود للونها الكالح.
يحكي عن الصور الكثيرة الباهته المعلقة داخل البرواز...
كذاكرته المثقلة المحملة بالكثير من الاحداث التي لا أعرف هل يرويها لنا ليتحرر منها ام انه يرويها ليثبت غرسها في وجدانه...
ارهقني هذا الطفل الذي يحمل في ذاكرته اشياء لا ادري كيف أنه ما زال محتفظا بها يصف كل شيء بدقة متناهية دون ان يغفل التفاصيل ..
اري ذلك واضحا حين قام بوصف عمته امينة انها مثل الثعبان لم يخطر ببالي ابدا انه يقصد انها بلا رموش بسبب تكرار اصابتها بالرمد ..
هذا الطفل استطاع ان يتأرجح بي ما بين الخيال والحقيقة
ينقلني الي عالم الخيال وحكايات الجدة عن العفاريت والجنيات والعمالقة و الاسكيلوب ذوي العيون الواحدة، وأيضاً في اعتقاده بملازمة اثنين له، لا تدركهما سوى عينيه وحده..
ثم يعود بي الي زمن الحرب كان دقيقا جدا في وصفه ملامح الحرب من ينسي النوافذ ذات الطلاء الازرق والاصوات المدوية والشوارع الخالية من المارة ..
حتي لحظات السعادة القليلة التي مر بها لم يغفل عن ذكرها لكن هل حقا كانت سعيدة بالنسبة له ام انه كان يجترها بأسي وحزن ايضا...
كيوم نجاحة وما ذكرة عن السترة التي صنعتها له جدته شيء ما في وجداني جعلني اتوحد مع هذاا الطفل واتبعة الي حيث يريد.
بكيت لأجل هذا الطفل الذي كره السماء الضيقة سماء القاهرة التي لاتتسع له لطائرته الورقية ...
بئس الحروب وماتخلفه لنا من دمار مادي ومعنوي.
حتي ان داوت السنين الاثر المادي من يداوي ماخلفته من جراح علي الروح لا تصل اليها يد حتي نعرف عل اندملت ام انها ما زالت غائرة...
حين انتهيت من قراءة الرواية ادركت حقيقة ان من يستطيع وصف الحرب ليس الموؤرخون ولا العجائز كما كنت اظن ولكنهم الاطفال هم الأقدر علي وصف ويلات الحرب بعيونهم الصغيرة ومشاعرهم البريئة لانه وللاسف ان الحروب تخلق منهم عجائز من نوع اخر عجائز لم تتجاوز اعمارهم العاشرة ولكنهم محملون بذكريات اضعاف اعمارهم مرات ومرات...
الحرب في الشرق رواية ذات طابع انساني تمس وجدان كل من عاش بزمن الحرب وعاني منها وحفرت في ذاكرته.