#ريفيوهات
"بصورة مفاجئة...عن المعارضات، وسر من سكن الديار"
"أُنادي الرَسمَ لَو مَلَكَ الجَوابا
وَأُجزيهِ بِدَمعِيَ لَو أَثابا
وَقَلَّ لِحَقِّهِ العَبَراتُ تَجري
وَإِن كانَت سَوادَ القَلبِ ذابا
سَبَقنَ مُقَبِّلاتِ التُربِ عَنّي
وَأَدَّينَ التَحِيَّةَ وَالخِطابا"
-أحمد شوقي
-في علاقة الإنسان وما يدور به من مشاعر وبواعث أمر يستحق التأمل، يرتقي إلى نوع من الفلسفة تمثل مفتاحا لفهم طبيعة البشر سواء في كتمانهم أو في طريقة تعبيرهم "أشبه -تقريبا- بعلاقة الشراب والكأس الذي يحويه"، موزعة-غالبا- في مستهل قصائد شعراء العصر الجاهلي "وكذلك من عارضوهم-أي ساروا على سيرهم- في بداية القرن العشرين"، نرى منها ما يجعل مشاعره مترددة بين نفسه وأشياء حوله يضيف إليها شيئا من بواعثه فتتعزز قيمتها ليرى بعضا منه كمرآة "كبيت ألا عم صباحا أيها الطلل البالي، أو البيت السابق"، ومنها ما يصنع عالمه الخاص تطوف فيه مشاعره وتصير نقطة مبتداها ومنتهاها كيان قائلها "كمعلقة امرؤ القيس "قفا نبكِ من ذكرى حبيب"، ومنها من يسدل ستارا على شعوره متخذا من صفات قومه دروعا تحميه "كمعلقة عمرو بن كلثوم "ألا هبي بصحنك فأصبحينا"
-ورغم أن تلك المجموعة تلامست مع تلك الصفات في قصص عدة "كصندوق اللعب، وكان ياما كان، وجوهرة، وصوت ما، وفي رؤية الأشياء"، إلا أنها جاءت بلعبة فريدة أضافت للقصص وجعلتها منفتحة على بعضها شارحة تلك الفلسفة بروية وبساطة، ألا وهي رؤية المشاعر من خلال الجماد نفسه، بكونه -كما فهمت من القصص- أمينة على اللقطات والذكريات "كالقلب اللامع في قصة دور شطرنج، أو صورة الملاكم في قصته، أو الحبل في قصة صندوق اللعب"، تنطلق بمجرد نظرة من صاحبها فترمم ذاته الممزقة وفق ذكرياتها أو انطباعاتها "كالحصى العجيبة في قصة جوهرة"، ومنه تكون جوا خالصا يعود فيه الشيخ الذي أرهقته الدنيا ومزقته بدروبها إلى ذكريات الصبا المنسية فيأوي إليها "كقصص وفي يوم من ذات الأيام، وصندوق اللعب، وصوت ما، وج.ريمة، ورسائل"
-يكمن السؤال عن هية وكون تلك العلاقة "بين المادة والروح (المشاعر) والعكس، وعن كونها سحرية خلابة ترمم وتآلف بين الأشياء المشتتة "كرفو الأم للعلبة القطيفة في قصة فتح الصندوق أو فك الجمل الملتبسة في قصة مشروع جريمة أو قصة وقائع العثور على اليوميات"، ولكن من تلك القصة نرى الإجابة جلية، فمن خلال تدريب الأم نفسها للمسارات التي يجب اتباعها، تجد بالمثل تلك الجمادات تحاول شق مسارا لنفسها وصنع مدلول معين تستطيع فيه أن تحقق سطوتها على النفس لتكمل الصورة عنده، وفي حين وجود فجوة ما "كفقدان أصدقاء العم في قصة صندوق اللعب أو اشتياق الأصدقاء لصاحبهم الأب بعد موته في قصة فتح الباب" تعجز تلك اللقطات في صنع مسار لتكملة تلك الفجوات، لأن في اعتقاد أصحابها ليست موجودة أصلا "وذلك من مراحل الصدمة الشهيرة والتي رأيت بعضا منها في رد فعل الأم في قصة في يوم من ذات الأيام، وكذلك في ممزقات الملابس في قصة صديقي "
--بين نافذتين
-ومن خلال تلك الفكرة، وجدت أن هناك توافق بنسبة كبيرة بين علاقة وضعها الكاتب بين الرواة وذكريات الأجداد والآباء وبين علاقة وضعها شعراء الإحياء والبعث بينهم وبين العرب القدامى، فكلاهما سطت عليهما -من جراء شتاتهم بالحاضر- شيئا من روح العودة للماضي تدعوهم وتجذبهم، وكلاهما وظف ذلك بصورة مراوغة فصنعا نافذة يطلان عليها من خلال تعبيراتهم "كسرد الراوي أو نظم الشعراء"، ومنه يصلان بين أنفسهم وماضيهم أو بين رؤيتهم الروحانية والعالم المادي المتغير "كتأملات الجد في قصة في رؤية الأشياء، ورؤى الجدة قبل موتها وعصيان الحفيد في قصة حكي الأحلام" بخط خفيف رغم كونه يمثل عجزا في تغيير هذا الكون وتطويعه، إلا أنه يساعدهم على اتزان بسيط في أيامهم، ومنه صنعت تلك القصص كما ذكرنا نوافذ متشابهة تتلاقى في مضمونها بين خط الجديد وخط القديم فيتقاطعا في ذات الرائي نفسه، كما الحال في معارضة أحمد شوقي للبحتري -والتي درستها في الثانوية- "صنت نفسي عما يدنس نفسي / اختلاف النهار والليل ينسي"
--رومانسية المسودات
أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
أَلّا وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ صَبَّحَنا
حَينٌ فَقامَ بِنا لِلحَينِ ناعينا
-ابن زيدون الأندلسي
-الملفت في تلك المجموعة اعتمادها في معظم القصص على سيرة ثنائية، تحمل بوضعها في إطار الذكرى برودة لها وقعها في أنفس متذكريها وشهودها، نراها بادية في ندم الراوي من عدم رؤيته لسعاد في قصة حكي الأحلام، أو في تعقل الأب في قصة مشروع ج.ريمة وكذلك في سرديات الراوي وابنة عمه في قصة كان ياما كان"، برودة تحمل غموضا في وجودها متفاوتا "كالإبهام في مذكرات الأب في قصص رسائل ومشروع ج.ريمة"
-وبالتواؤم مع فكرة استبصار الأشياء وتفاصيلها وفكرة سطوة الذكرى على المرء، تتولد حالة فريدة ينعزل بها المرء مستعيدا صوت تلك الذكرى ومعمرا أطلال مشاعره كما كانت حارقة من قبل "وعليه أتى تصرف الخال مع زوجته المتوفاة هند في قصة دور شطرنج محاولة رفو لصدمته وفراغ حياته وكذلك في حركة الجارة في قصة وفي يوم من ذات الأيام للصور بخاصة صورة ابنتها الراحلة"
تأملات:
ملاحظ في قصص وقائع العثور على اليوميات، وحكي الأحلام، وفتح الباب، ومشروع جر.يمة، تكرار اسم "إسماعيل " وهو ببحث بسيط له دلالة على السمع "إذ أن معناه بالعبر.ية يسمع الله" وبما أن السمع وعاء للكلام، جاءت تلك الشخصيات متفقة على كونها وعاءا لحدث أو تصرف ما، مثل شخصية اسماعيل في حكي الأحلام كانت وعاءا سكبت فيه الوصلة بين الحلم والواقع، وكذلك إسماعيل الآخر في قصة مشروع ج.ريمة سكبت فيه أثر الخطة المحكمة فكان ضحيتها، والحاج اسماعيل أيضا الذي كان وعاءا مشبعا بحلم من ذكرى أحباءه.
الخلاصة: عمل جميل جدا، أعجبني في سلاسته وهدوءه ومزجه بين السرد صاحب التعبيرات البسيطة والحوار باللهجة العامية الهادىء، فيما عدا آخر قصتين "صوت ما وصديقي" كان فيهما بعض التعبيرات الثقيلة بعض الشيء