#ريفيوهات
"الأرملة تكتب الخطابات سرا......رشة ملح على قبر غريب"
- لمن ينظر لمجمل أعمال الكاتب طارق إمام يجد مدينة حية متمثلة في رواياته رغم تباين أفكارها قليلا، يرى مدينة هي ذاتها التي نعيشها واقعنا، ولكن الرؤية الموزعة على أبطال أعماله- مثل أوريجا في ماكيت القاهرة، وبطل قصة هدوء القت.لة وأبطال قصة حكاية رجل عجوز وملك في تلك الرواية- مختلفة تماما، كأنها إن نظرنا لكل عمل على حدة في مقارنته للواقع "كوصف نود في ماكيت القاهرة لأبيها، أو في وصف بيلياردو لبائعة الملابس في نفس الرواية، وكذلك في رؤية الأرملة ملك للأبنية والبشر ولحديث البنات عن الموت" يصنع نظرة جديدة تعمل على تعرية المدينة ونزع ما يراه من شوائب، أو على الأقل نظرة محايدة تحاول تحليل تفاصيلها واستيعاب سر حركتها.
-ورغم أن تلك الرواية يمكن أن تكون مبتعدة قليلا بالنظر للمتناقضات -كالوجود والعدم والحياة والموت وهوى المحبين وجمود الحياة "المتمثل في شبح الصائغ" - على حدة، لكن من خلال إطار الحبكة تم تحويل تلك الأفكار والرؤى إلى شيء متمم للمدينة وصورتها، كرشة الملح مثلا، ومجمع لأضدادها كشريط مزين.
--من الشيء إلى نفسه
❞ -البدايات هي التي تحدِّد النهايات .. وأحياناً تكون البداية هي نفسها النهاية. ❝
ماكيت القاهرة- طارق إمام
- من نظرة المسز حول البداية والنهاية باعتبارها محطات لا بد أن تكون محددة، تنطلق ملك "بطلة تلك الرواية" في رحلتها القصيرة، ومن نظرة أخرى حول الأصل الواحد للبداية والنهاية بشرط أن تستسع النقطة للتناقض "تكون محطة ذات وجهان مثلا"، تنطلق ملك من المحطة المميزة التي يبدأ عندها كل شيء وينتهي كذلك، وهي المقبرة.
-حيث تبدأ ملك الأرملة البائسة رحلتها بالرجوع إلى بلدتها لكي تدفن فيها، ومن مقبرتها التي دل عليها التربي تسير حكايتها تحت مظلة الموت، تجاوره فتسكن منطقة قريبة جدا من المقابر، فتتردد من تلك النقطة إليها في كل شيء، في إئتناس لجنازة دلتها على مقبرتها أو حديث عبثي للبنات عن الموتى وقصصهم، ولعل اقتراب البداية من النهاية وفي انتظارها للموت مع انقضاء السنة زاد من شفافيتها، فصارت تعيش حياتها الباقية كرحلات قصيرة، ورغم قصرها تكون البطلة فيها، كأحلامها المطولة، أو الرسائل الغرامية للبنات، أو رسائلها الخاصة
- وبشفافيتها أيضا تستطيع رؤية رفيق رحلتها وبادئها "الموت" مشكلا خطا من حكايات وحيوات غريبة بين حوائط شقتها، فترى الزوج الصائغ لتستعيد الرهبة القديمة منه، وترى رجاء الشخصية العفوية تختفي بعد علاقة حميمية بينها وبين ذا الندبة "ربما تكون إشارة لموتها مثل لقاء الأب وولده في قصة كوليرا "مجموعة حكاية رجل عجوز "، ومنها تزداد شفافيتها أكثر لتنتقل برحلتها بيد خفية إلى بيتها مرة أخرى وتصير عدما "حين ترى أن يدها ليست لها".
--الغريب ولو كان....بصير
❞ سألت رجاء فور صعودها:
ـ مين اللي مات؟
تضحك رجاء قائلة:
ـ يعني لو قلت لك هتعرفي يا أبلة؟ ❝
- من هذه الشفافية، ولأن ملك على صداقة حذرة بالموت، نراها تشبهه لكن تتفوق عليه، فهو وإن كان مهيب الجانب فهو كالملاك الأسود "في قصة ملاك أسود من مجموعة حكاية رجل عجوز " لا يملك ذاكرة يستند عليها في رحلته، لكن ملك تملك إياه في رسائلها وعشقها السابق الذي قوته العزلة، والتي صنعت علاقة من التنافر بين ملك التي تنظر للخطابات الرديئة وشكل الناس وهيئة البلدة، وبين البلدة التي تراها قطة منفرة غريبة، لتكون حياتها مجرد مقارنة بين الجديد في كل شيء وزمانها القديم
❞ ـ البلد دي أنا اتولدت وعشت فيها.
ـ بس ماتعرفيهاش يا أبلة.. انتي سبتيها كتير ورجعتي متغيرة عنها. ❝
-المفيد أن تلك المقارنة لم تقف عند شعور معين أو حركة بلا حساب كالراهبة "التي تشبهها في شفافيتها" ، بل انضمت لجزء من توليفة عجيبة تتكون من خطاباتها وذكراها، وأخطائها القديمة، فتحركت بحس فنان مرهف يقف كالناقد أمام حياته فارزا إياها ومن ثم ينقل خبرته بصورة أجمل أو محسنة قليلا حتى يهبها لرفاقه العشاق فيعيشون فرحتهم البكرية من حب واشتياق حتى تنتهي ويحل محلها الرتابة وتختفي علاقتهم بها.
-- بعلم الوصول "فصل الخطاب"
- وبما أن آخر ما يكتبه الفنان سيرته، وتكون مهمته الأخيرة التي يعيش بها، نرى مهمة ملك في فرزها لما خطته وكتبته، تعيد إحيائه ومعايشة حروفه حتى تفرغ منها، فتطاير تلك النسخ المزينة للعامة مستعيرة ما كانت تفعله أيام عزلتها، إلى أن تصل للخطاب الأخير شبيهها في التجاعيد لتراه مصقولا متحللا من طلاسمه، والذي يعني منه أن كل خطاب يحوي تجعيدة من تلك الورقة وان الورقة التي تغلغلت في كيانها أول الأمر هي حياتها التي تستطيع بسهولة اختراقها وبسهولة أيضا التنكر لها "أي ميت أنت؟"
- تتشابه نظرتها الأخيرة للخطاب بنظرة بطل قصة هدوء القت.لة مع رسالة سوسن العجوز والتي تتفق في تمام المهمة واللقاء الذي يعني اكتشاف هية الرحلة ومن ثم نهايتها الدرامية التي تتفق مع العجوز الحالم "قصة حكاية رجل عجوز " وملك ورجاء "غالبا"
الخلاصة: رواية رغم صغرها إلا أنها نقلت نظرة جديدة للمدينة وتناقضاتها على يد غريب عنها، والذي بفضله نرى الصورة بدهشتها الأولى دون ملل