"حين يستشعر المرء رائحة أبيه، تبدو المسألة كأن كل الأمور ستنتهي على ما يُرام، وأنه ما من شيء سيئ قد يحدث."
رواية "كيف قتلت أبي" للكاتبة الكولومبية "سارة خاراميو كلينكيرت" مبنية على قصة حقيقية للكاتبة التي تحكي مآسأة اغتيال والدها، التي جعلتها تعيش طفولة مُتقلبة بعد الإنعزال التي لجأت إليه الأم بعد قتل الأب، وتغير أحوال الأخوة التوائم غير الُمتماثلين، فتروي من وجهة نظر طفلة، كيف تعيش دون أب بين عائلة مُمزقة؟ وكيف كان الأب هو الوتد الذي ترتكز عليه العائلة.
رُبما خادعني العنوان بعض الشيء وظللت طوال أحداث الرواية أترقب كيف قتلت والدها؟ إلى آخر فصول الرواية لأفهم، ولأجد أن عنوان الرواية مُناسب جداً لهذه الرمزية المُستترة حولها، فعملية الكتابة المُعقدة التي قامت بها الكاتبة لتُلقي بكل الألم من على عاتقها، ألم فقدان والدها، ألم تشتتها الدائم، وخوفها، وعدم شعورها بالأمان، فبعد إنشغال الجميع بحياته، الأخوة بتقلباتهم، والأم في إنعزالها وزراعتها للنباتات المُختلفة وإطعام الطيور. فكيف تعثر الفتاة ذات الأحد عشر عاماً على الأمان؟
"يقولون إنه حين يموت المرء، تمر حياته أمام عينيه. حسناً، أنا مُت في هذه اللحظة. هاجمتني ذكريات كأنها خناجر: آلمتني، وأسعدتني، ومزقتني، وكونتني مُجدداً، وانتزعت أحشائي، وبثت في الروح."
تُربكني هذه الكتابات الحزينة، التي تحمل رثاءاً سودواياً، والتي توضح حقيقة النفس البشرية، التي تبلغ من الهشاشة الحد الذي يُنهي حياتك في لحظة لأي سبب مهما كان تافه، كتشابه أسماء مثلاً، الذي يجعل فتاة في الحادية عشر من عمرها تواجه العالم، دون جدار أمان، بهلع وخوف، ويضع عليها واجب ومسئولية تجاه أخواتها أكبر من سنوات من عمرها، وفي إقتباس أكثر من رائع توضح الكاتبة/الراوية عما أنقذها:
"الكتب هي الشيء الوحيد الذي تبقى من رغبتي الأساسية. سلمتُ نفسي إليها بوصفي شخصاً ليس لديه مكان آخر يلوذ إليه. بدأت أعاني من الأرق، وفي مرات كثيرة باغتني شروق الشمس ومعي كتاب في يدي. على الأقل، كنت أنفذ أمنيتي بقراءة كل الكتب الموجودة في العالم. لو أنني ذات مرة فكرت في الموت، فقد نبذت الفكرة بمجرد أن فكرت أن الموتى لا يقرؤون. كلما ازدادت قراءاتي، أدركت كل الكتب التي تنقصني. إنها مسألة لا تنتهي. سأحتاج أن أولد ألف مرة أخرى، كي أنجح في مسعاي. لقد أنقذت الكتب حياتي."
ختاماً..
رواية مؤلمة، يأتي ألمها من واقعيتها، وتترك هشاشة في النفس ناتجة عن إمكانية حدوث هذه الرواية في أي مكان حولنا، مهما كان على درجة عالية من الأمن والأمان، فهذا العالم المجنون لا يتورع في كشف أعراض جنونه، فكيف نواجهه إلا بالكتابة عنه؟ بطريقة "سارة خاراميو" التي جعلتنا نخاف هذا المصير بأبسط التشبيهات وأعقدها، بربطها بالأرض والنباتات والحيوانات، فعلى الأقل لن يقوموا بإيذائك كالبشر!
وجدت بعض الأحداث غير مُكتملة مما أضفى لمحة لا منطقية، شعرت أحياناً أن هناك أجزاء أكثر لا بد أن تُحكى، ولكن الكاتبة اختارت ما يلف حول العنوان فقط، وتأثيره على حياتها، هذا ما توصلت إليه وقد أكون مُخطئاً.
جاءت الترجمة جيدة كعادة "محمد الفولي" والذي أهتم بكل التوضيحات في الحواشي وحتى طريقة ترجمته لبعض الألفاظ.
بكل تأكيد يُنصح بها.