ليس أجمل من عثور الكاتب على صوته وعلى خصوصيته، ومن استخدامه لذلك الصوت بشكلٍ ذكي، في عدد من الأعمال والكتابات، فالذين عرفوا طلال فيصل من سيرة مولع بالهوانم إلى بليغ، سيعرفون تلك اللقطات "الطلالية" المميزة، في عدد من التفاصيل التي تبدأ من العلاقة بالأم والحبيبة ولا تنتهي عند انتقاد الإسلام السياسي والسلطة بشكل من الأشكال، مرورًا خفيفًا على الرمز والمحاكاة بين الإنسان والحيوان، وهو ما يفعله هنا باقتدار في هذه الممتالية القصصية الجميلة.
لاشك أن القارئ ما إن ينتهي من القصة الأولى والثانية، حتى يدرك تمامًا أنه إزاء ذلك النوع الجميل من القصص الذي يعتمد تيمة واحدة، ويلعب عليها الكاتب من مواقع مختلفة، باستثناء أن طلال لم يفارق موقعه هذه المرة كطبيب نفسي، يعرض حالات عجيبة لمرضاه، وما جاء تعبير "رواية" الذي وضعه الناشر على العمل (فيما أظن) إلا كمحاولة لترويج العمل بطريقة مختلفة، طريقة ترى أن للرواية رواجًا عن المجموعة المتميزة!
وبغض النظر عن هذه الفكرة الشكلية، فقد استطاع طلال فيصل أن يقدم في مجموعته القصصية الأولى، موهبة خاصة، لاتقل عن براعته واقتداره في عالم الرواية الذي سبق واحترفه.
هنا نحن إزاء ست قصص/حالات مختلفة، لشخصيات/ مرضى يحلون أمام ذلك الطبيب النفسي، الذي سيكشف لنا في النص الأخير عن نفسه، ولكن الملفت والجميل أن كل قصة من الستة تحمل عالمًا ثريًا بأكمله، يقوم طلال بتكثيفه وعرضه للقارئ بطريقة مشوقة، بل إن واحدة من هذه القصص يقسمها إلى فقرات مشوقة وكأنه يكشف لنا عن لغز خطير، لاسيما إذا عرفنا أن بطل القصة قاتل!
(حدَّث المعالج قال، ما أسهل أن تدعي الضجر وأن تتعالى على شكاوى المرضى المكررة، لكنك تعلم في أعمق أعماقك أنك مثلهم، عاجزٌ أن يكون لك أصحاب، عاجز عن خلق علاقة وحوار، ولكن لأنك ذكي ومحظوظ قررت العمل طبيبًا نفسيًّا، لتكون حياتك حوارًا مستمرًّا لا ينقطع، وعلاقة لا تنتهي مع مريض تشتكي آخر اليوم الطويل منه، لكنك تعلم أنك تعاني مثله، وأنك لا تستطيع الحياة بدونه)
ليس جديدًا على طلال أن تحفل كتابته بالنقد الساخر أحيانًا لعدد من المظاهر والمواقف المجتمعية، بدءًا من البحث عن علاقات الحب الجادة (في قصة تندر) مرورًا بالنقد اللاذع للوسط الأدبي وما يجري فيه من تزلف ونفاق ووصولية يصل بصاحبه إلى حد فقط الثقة في نفسه (في قصة كراسة الحقيقة) وكذلك التعلق المرضي أحيانًا بشخصيات أدبية في (هوس خيري شلبي) التي أرى أنهما من أقوى قصص المجموعة، بل وفي ظني كان من الممكن أن يبنى عليهما رواية خاصة، لاشك كانت ستكون ثرية ومثارًا للكثير من النقد والتساؤلات، حول من يقصد بما يقول وغير ذلك.
وإذا كان أبطال/شخصيات قصص عالمه القصصي كلهم من المرضى الآدميين، فقد آن الأوان لأن يحتل الحيوان أيضًا فرصته في الوجود، فجاءت قصة (الغابة والقفص) التي عبّر فيها عن اكتئاب ذلك القرد وحيرته بين عالم الغابة الحر الواسع وعالم القفص لتكون خير مثال وخير ختامٍ لهذه المجموعة، وهي القصة التي يمكن أن تكون رمزًا أو أسطورة على حد تعبيره ذلك أنه اعتبرها حكاية خرافية على لسان القرد، ولعل كل من سيقرأ سيعرف تمامًا إلى ماذا ترمز الحكاية تلك، وكيف تشير إلينا بوضوح .
في النهاية، شكرًأ لطلال فيصل على هذه المتتالية القصصية الجميلة، وفي انتظار أعمال أكبر وأكثر إمتاعًا .