مع السطور الأخيرة في رواية "دلشاد" سيفاجئ القارئ بلاشك أنه كان يقرأ الجزء الأول من هذه الرواية، والتي حملت عنوانًا جانبيًا هو "سيرة الجوع والشبع"، وأن ما قرأه كله يخص "الجوع" وثمة جزءًا ثانيًا عن "الشبع"، أي أن الانتقالات الثلاث التي رسمتها الروائية "بشرى خلفان" بكل مهارة واقتدار في الرواية كانت كلها صورًا مختلفة للجوع، على اختلاف الزمان والأماكن بل وطبقة المجتمع التي تناولتها. وهو ما يمنح شعورًا آخر بالترقب لما ستكون عليه البنية والتفاصيل في الجزء التالي الذي يحمل عنوان "الشبع"!
في روايتها الثانية (دلشاد ..سيرة الجوع والشبع) والصادرة عن منشورات تكوين، وبعد نحو خمس سنوات من نجاح روايتها الأولى "الباغ" (مسعى -2016) تعود بشرى خلفان إلى رصد وتصوير حياة البسطاء والمهمشين في بلدها عمان، جنبًا إلى جنبٍ مع الأغنياء والموسرين، ذلك أن الجوع لا يبدو _ كما قد يتبادر إلى الذهن، لاسيما مع الفصول الأولى من الرواية _ مرتبطًا بعالم الفقراء وحدهم، ولكن ثمة جوع مختلف، ربما يكون أشد قسوة وعنفًا يلتهم كبار الأغنياء والتجار بغير رأفة!
تنتقل بنا الرواية عبر ثلاث مناطق/ حارات مختلفة في مسقط بين "لوغان" و"ولجات" و"حارة الشمال"، وترصد من خلال انتقال أبطال الرواية بين تلك المناطق وغيرها حال عمان وحياة أهلها في الربع الأول من القرن العشرين، وكيف كان أثر الحماية البريطانية على أرضها، وكيف جاء أثر الحرب العالمية عليهم، نتعرف في البداية على "دلشاد" ذلك الاسم الذي يثير حيرة القارئ لمعرفه معناه وهو الاسم الفارسي الذي منحته أم دلشاد له ويعني "الضاحك" ليواجه به قسوة الحياة، ولكن حياته لم تتسم بالسرور والضحك ولكن جاءت المفارقة أنه أصبح يضحك ويزداد صوت ضحكاته في أقسى المواقف والأزمات التي يتعرض لها!
سيرة الجوع .. مسيرة الحياة
رغم شظف الحياة وقسوتها إلا أن دلشاد يتمكن من الزواج بامرأةٍ من البلوش ولكنها سرعان ما توافيها المنية بعد ولادتها لابنتها "مريم" ويتولى هو هم ومسؤولية تربية البنت والقيام على مصالحها حتى يشتد عودها فيضطر إلى أن يتركها في أحد بيوت "ولجات" حيث يمكنها أن تحد قوت يومها وتحظى بمكانةٍ لاتقلل من شأنها في "بيت لوماه"، وهناك يقع في غرامها سيد البيت "عبد اللطيف" فتنتقل حياتها نقلة نوعية إلى حياة الدعة والرخاء، إلا أن الأمر لا يستقر لا بمريم ولا بدلشاد أو عبد اللطيف، فسرعان ما تتقلب بهم الأحوال وتتغيّر، فبينما يهاجر دلشاد مسقط كلها بحثًا عن لقمة عيش سرعان ما تنقض الحرب أوصال "بيت لوماه" لتخرج مريم وابنتها فريدة باحثين عن فرصة أخرى للحياة في حارة الشمال.
ربما يبدو للقارئ لأول وهلة أن الحكاية - على نحو ما يوحي العنوان – هي حكاية "دلشاد" أو سيرة الجوع والشبع الخاص به، ولكن سرعان ما يتكشف له الأمر بين فصول الرواية القصيرة المحكمة، أن الرواية تحكي عن أبطالهم كلهم، والتي يحمل كل فصلٍ منها صوت أحد رواتها، بل يبرز بينهم صوت "مريم" ابنة دلشاد بشكلٍ خاص، تبدو هي فيه وكأنها بطلة العمل بلا منازع، ولكن يحضر باقي أبطال العمل ويعبرون عن أنفسهم بوضوح، فتغدو الرواية كمعزوفة موسيقية يتقاسمها العازفون كل واحدٍ منهم يروي من جهته ما يراه وما يحدث له، وكيف يواجه الحياة، سواء كان فقيرًا معدمًا أو تاجرًا غنيًا، وتكمن البراعة في تمثل كل شخصيةٍ من شخصيات الرواية في طبقاتها المختلفة رجالاً ونساءً وقدرة الكاتبة على التعبير عنهم بواقعية شديدة، ثم حياة تنشأ وصعاب وصراعات تحيط بالجميع، وبين هذا وذاك نتعرّف على طرفٍ عزيز من تاريخ الوطن العربي من خلال حياة أهل عمان، عاداتهم وتقاليدهم، وكيف واجهوا ظروف الحياة الصعبة، وتغلبوا عليها.
تقنيات روائية محكمة
كانت تقنية تعدد الأصوات واحدة من عوامل التشويق والمهارة في بناء الرواية، ولكن بشرى خلفان أضافت إلى الرواية طابعًا محليًا شديد الخصوصية والجمال، وهي التي عرفنا اهتمامها الخاص بتوثيق طرف من تاريخ الناس في عمان مثلما فعلت في روايتها الأولى المتميزة "الباغ"، وهي هنا تواصل ذلك من خلال رصد عادات الناس وتقاليدهم في ذلك العهد القديم، إعدادهم للطعام وحفلات عرسهم ومآتمهم، وغير ذلك، بل وتضيف إلى كل ذلك عددًا من الأغاني والحكايات والأساطير والمقولات المأثورة بلغة أهلها الأصلية، والتي تأتي متماشية مع نسيج الرواية المحكم، ويطبع الرواية في النهاية بطابعها الخاص.
وعد الحب الذي ينشأ.. ولا يزول
(عندما عدت إلى مسقط، كانت لهفتي عليها أكثر من لهفتي على البيت، وبالتأكيد كانت أكثر من لهفتي على أختي، وعندما وجدت أن البنت التي كانت قد بدأت بترك طفولتها قبل أن أغادر، قد تبدلت وطالت، ولمعت بشرتها واحمرَّت وجنتاها، واستدارت ثمارها خفق لها قلبي بشدة، وعندما قبَّلت كفي وهي تسلم علي، اجتاحتني شهوة جاهدت كي لا تظهر علاماتها عليَّ كنت أراقب حركاتها، وضحكاتها، وبريق الذكاء في عينيها، وشفتيها الواعدتين بالسكر، فعرفت أني أريدها كما لم أُرِد أحدًا من النساء)
رغم ظروف الحياة الصعبة وما يقاسيه أهل مسقط من مآسي الجوع والفقر، يحضر الحب في حياتهم أكثر من مرة، وتخفق قلوبهم، ويتناولون في حكاياتهم قصص أهل العشق والغرام، يحضر الحب لا في الحكايات فحسب، بل بين أبطال الرواية مرهفًا وشاعريًا وجميلاً، يعبّر عبد اللطيف بصوته وحكايته عن ولعه بمريم منذ دخلت بيتهم، وتصوّر الكاتبة ببراعة حيرة البراءة عند مريم التي لم تكن تعرف في الحياة أبعد من ما تقيم به حياتها، وبعدهم بأعوامٍ نجد الجيل التالي الذي تمثله فريدة وقاسم، الذي نتتبع خيوط حكايتهم، وما يحدث بينهم من صد ورد، حتى تكون تلك الحكاية مسك الختام للرواية.