فكرة جديدة مختلفة، وتنفيذ موفق جدًا،
في روايته الثانية يخوض أحمد ولد إسلم تجربة جديدة في عالم متخيّل بالكامل، يسعى من خلاله إلى استشراف المستقبل، وافتراض ماذا لو تمكن أحدهم من السيطرة على الجميع
..............
وسط عالم يغص بالأرقام، وتتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا وسباقها المحموم، هل يمكن أن يخرج فردٌ واحد بعيدًا عن هذا العالم كله، بل وأن يمتلك في الوقت نفسه القدرة على فهمه واستيعابه وهو بعيد عنه، بل وبعد ذلك يتمكن من السيطرة عليه.
هذه هي الفكرة الذكية، أو المفارقة النادرة التي التقطها أحمد ولد إسلم في روايته الثانية "البراني"، وخرج بها كليةً من عالم روايته الأولى "حياة مثقوبة"، ليقدم رؤية استشرافية لما يمكن أن يكون عليه المستقبل، في رواية تجمع بين الديستوبيا والواقع وترصد تطورات التكنولوجيا بشكلٍ فريد.
في "البراني" (وسنتعرف عليه لاحقًا) نجد مختور ذلك الرجل الموريتاني البسيط الذي تمسك ببقائه في قريته وداخل عالمه الذي لايتجاوز حدود مزرعته، ولكن شاءت الأقدار أن يمتلك مع ذلك إدراك ومعرفة بل وتجاوز عوالم التكنولوجيا المتقدمة كلها وسبر أغوارها، وهو ما سيمكن جهاز آلي من السيطرة عليه فيما بعد.
تأتي براعة السرد في الرواية من خلال مقاطع الرواية المقسمة إلى فصل وانتقال السارد بين حكاية مختور في الماضي، وتعرفينا على ماضيه وما حدث له بشكلٍ موجز في كل فصل، حتى تكتمل عندنا الرؤية في منتصف الرواية تقريبًا مع ظهور شخصية "البراني"
((لم أعد أشعر بالانتماء لهذا الفضاء.. أريد العودةَ إلى العالم الذي كنت فيه قبل الحادثة، أريد أن أمتلك مزرعةً في فضاءٍ لا يكون فيه أحدٌ يزعجني، أربِّي بعض الأبقار وأحرث قطعة أرض، وأراقب النجوم ليلاً، وأستمع إلى الموسيقى، وأحاديثَ البسطاء الذين تركتهم هناك؛ لم أعد أريد استكشاف العالم، ولا العمل في المجال التقنيّ، كلّ ما أريده أن أستعيد سنواتي السبع التي حُذفتْ من حياتي، يجب أن أستمتع بكلِّ دقيقةٍ متبقِّية من عمري بشكلٍ مضاعف.))
لم تقتقصر فكرة الرواية على شخصيات مختور ومايخرص والبراني، وعالمهم، ولكن ظهرت منذ البداية جزيرة "فيوتسيتي" التي يبدو فيها ملامح مختلفة للمستقبل تحترم إنسانية الناس، وتعطيهم مقابلاً على كل وقت يعملون فيه مباشرة، بل تم اختراع عملة مخصصة لوقت العمل أصبحت هي شعار هذه الجزيرة وسكانها كلهم.
(( عند بداية تأسيس فيوتسيتي، كان النزاع على أشدّه حول العملة الرسميَّة التي سيكون بها التعامل بالبلد الناشئ. وخلال الأيَّام الأولى للمشروع، كانت الفكرة أن تكون كلّ العملات العالميَّة مقبولةً في التعامل اليومي وتقوَّم بناء على قيمتها السوقيَّة، لكنَّ ذلك أوجد حالةً من الارتباك وسبيلاً للمضاربة كاد يعصف بالمدينة الوليدة، قبل أن يتقدَّم المهندس الشابّ حينها حمُّود الجملوديّ المنضمّ حديثًا لاتِّحاد العقول المهاجرة باقتراح إنشاء عملةٍ رقميَّةٍ مرتبطةً بالهواتف الذكيَّة تكون قائمةً على الطاقة الإنتاجيَّة للفرد، ويكسب من نقاطها بحسب ساعات عمله، وتكون قيمتها السوقيَّة مرتبطةً بمدى إنتاجيَّة المجتمع الذي يعيش في فيوتسيتي، واقترح تسميتها تايم كوين، أيْ عملة الوقت؛ وأن تكون كلّ وحدةٍ منها تساوي دقيقةَ عمل، على أن تُقدَّر رواتب الموظَّفين بحسب الدرجات الوظيفيَّة، فلكل درجةٍ قيمةٌ خاصَّة مقابل دقيقة عملها))
ولاشك أيضًا أن فكرة جزيرة "فيوتسيتي" (قرأت في بعض المراجعات أنها فيوتشر سيتي) تبدو خيالية حالمة وواعدة أيضًا، بالمزيد من الإغراق في تفاصيل حياة يكان هذه الجزيرة وطرق تعاملهم بعملتهم الجديدة، وكيف تشكّلت علاقاتهم وكانت حياتهم هناك، وهل وجودا فيها حياة مستقرة أم لأ، لإن كل ذلك انتهى بسرعة ـ فيما يبدو ـ مع تركيز الكاتب على أحداث روايته التي تجاوزت الجزيرة والتكنولوجيا التي وصلت إليها لتنتهي إلى تقويضها ومحاولات ثورة الآلة الصغيرة على كل ذلك.
نلمح في الرواية أيضًا بين الحين والآخر، وبينما الصراع يحتمد بين الإنسان (يمثله مختور والذين معه) والآلة (براني)، نجد تلك المواجهة التي يريد أن ينتصر فيها الكاتب للعالم الطبيعي والبدائي على العالم الجديد بتكنولوجيته وصناعته وبهرجهته، ولعل هذا التوجه أصبح عالميًا إذ نجد اليوم نزوحًا كبيرًا تجاه البدائية والبساطة في مواجهة تغوّل الآلة والمدن الجديدة وعالم التكنولوجيا والأرقام الذي يأسر الإنسانية كلها!
ربما يكون لدى الكاتب طموح آخر بجانب كتابته عن المستقبل وأجواء الديستوبيا التي أدخلنا فيها بحرفية وذكاء، وهو الأمر الذي يتعلق بالموسيقى الموريتانية، ومحاولة توثيقها، أو الحديث عن آلاتها وأنماطها وفرادتها، ولكن المشكلة جاءت في أن هذه الفكرة (وهي على قدر كبير من الأهمية والثراء) لم تتجاوز إلا شرح عدد من المسميات التي اختارها أبطال العمل، ولم يتجاوز الأمر ذلك في ظني، نقرأ في الرواية:
((فالموسيقى الموريتانيَّة تتفرَّد عن كلِّ أنواع الموسيقى في العالم بتقسيمها المميَّز، ففيها ثلاث طرق لا تتقاطع إلاَّ نادرًا، وتُسمَّى محلِّيًّا الجوانب أو الطرق، وواحدتها جانبة أو طريق: وهي الجانبة الكحلة أي الطريق السوداء، والجانبة البيظة أي الطريق البيضاء، ثم الطريق العاقر وسُمِّيت بذلك لأنَّها لا تتضمَّن أشوارًا؛ والأشوار هي المعزوفات الموسيقيَّة الفرعيَّة، أحيانًا يُصاحبها غناءٌ وأحيانًا تكون مجرَّد عزفٍ منفرد. وفي كلِّ طريقٍ من هذه الطرق، خمسة مقامات، تبدأ بالمقام الافتتاحيّ ويُسمَّى مقام كرّ الذي يُعدّ مقام البهجة والفرح؛ ثم تنساق النغماتُ إلى مقام فاقو الحماسيّ المخصَّص للفخر بالمآثر واستذكار الانتصارات والأمجاد؛ صاعدةً إلى مقام لكحال مقام الطرب الصافي، حيث تتحرَّر النفوس من أثقالها وتخفّ الأرواح إلى عالم الوجد؛ ولا تلبث فيه طويلاً قبل أن تترحَّل بها الأشواق إلى مقام لبياظ، مقام الشجن الباكي على خوالي الأيَّام ومرابع الأنس وذكريات الصفاء؛ ثم تنحدر الأنفس المجهدة إلى مقام لبتيت، مقام الاختتام الذي يذكِّر السامعين بفناء كلّ شيء، مقام يجمع كلّ ما سبق ثم يُغرقه في دمع الفراق الحتميّ لملذَّات الدنيا))
كل هذا الشرح النظري مهم وجميل، ولاشك أنه كان يحتاج لأكثر من مختور وبراني ورفاقه لكي يقوموا بالتعامل مع هذه الآلات والأفكار ويجعلوا القارئ متفاعلاً معها، أو حتى شغوفًا بالتعرف عليها إذ أعتقد أن أمرًا كالموسيقى الموريتانية لو أراد الكاتب أن يفرد الحديث عنها لاحتاجت إلى رواية خاصة بها، بعيدًا عن أجواء التكنولوجيا واستشراف المستقبل.
ربما يبدو للبعض أن البراني رواية من الخيال العلمي، ولكني لا أعتقد أن الكاتب قصد منها خيالاً علميًا بالفعل، بقدر ماهي محاولة جيدة للاستفادة ببعض الأفكار العلمية بشكل نظري لتصور مستقبل مختلف تمامًا يعتمد على التكنولوجيا، إذ نعلم أن أفكار الخيال العلمي أكثر تعقيدًا واتساعًا من ذلك، وربما هذا مما يحسب للرواية أيضًا أنها لم ترتبط بتعقيدات علمية مفصّلة ربما تصرف عنها القارئ، ولكنها استطاعت أن تستفيد من الأفكار العامة التي استخدمها الكاتب لتوصيل فكرته بشكل مختلف.