بعدما أنهيت الرواية وجدتني أردد مقولة سعد زغلول الخالدة بأنه لا يوجد فائدة.. يبقى الحال كما هو عليه.
القراءة الثانية لـ(أشرف العشماوي) بعد رواية "سيدة الزمالك" التي توقعت أنها أفضل أعماله لتنضم "بيت القبطية" إليها بجدارة.
وعلى عكس "سيدة الزمالك" التي كان تركيزها الأساسي الجريمة والإثارة والتشويق.. وحل اللغز.. كان تركيز "بيت القبطية" على قضية أو لنقل قضيتين شائكتين للغاية.. تناولهما القاض "أشرف العشماوي" بشفافية رغم أن أحد القضايا تمس سلك عمله شخصياً. وذلك ما جعلني أرى أن هذه الرواية لها مكانة خاصة عند الكاتب.. لأنه وضع فيها من نفسه وفكره وخبرات عمله أيضاً.
أما عن القصة:
فتدور أحداث روايتنا في قرية (الطايعة/التايهة) في زمن حُكم حُسني مُبارك.. القرية التي تشربت دماء المسلمين والمسيحين سوياً لتفوح رائحة الفتنة الطائفية في كل ضواحيها. وبكل بساطة هي قرية يحكمها قانون: أما أنت تعيش أو أنا أعيش.
"أؤمن دائماً بالإشارات والعلامات، فنحنُ في متاهة، وطُرق الخلاص تشابهت علينا، والعلامات منحة لا تُرد لنهتدي.."
ودعنا نتحدث قليلاً عن الشخصيات.. وشخصيات روايتنا من أهم مُميزاتها وأهم خصائص كتابة (أشرف العشماوي) فهو يرسم الشخصيات بطريقة تجعلك تشعر بها وتتفاعل معها كُلياً..
فالمُحقق القضائي "نادر فايز كمال" يجد نفسه منقولاً إلى هذه القرية ليُتابع قضاياها.. ورُبما كانت هذه التجربة أقسى ما مر به في حياته كُلها. فكما تعرف الدم هُنا في الطايعة يُراق أكثر من زرع البصل! ولكنك قد تُحاسب على زرعك للبصل ولا تُحاسب على قتلك للعشرات!
يُقابل "رمسيس" وهو حاجب الإستراحة ولكنه شخصية مُريبة تشعر بأنه مُحرك الأمور كُلها ويعلم كُل شيء ويتواجد في كُل مكان.
وبينما كانت "هُدى" تفر من ماضيها إلى مُستقبل غامض لا ملامح له.. تقع تحت يدي "رمسيس" الذي سُرعان ما رتب له زيجة سعيدة بـ"رزق"..
فهل سيُشرق مُستقبل "هدى" على حياتها؟ أم أنها مُجرد سعادة لتعرف طعمها فقط!
لتدور الأحداث التي يكون مركزها الثُلاثي.. ونفهم ما يدور في الطايعة من نقل ملكية الأراضي وتقاتل المُسلمين والمسيحين على كُل شبر في البلد.. ودور "رمسيس" الشيطاني في نقل الملكيات ببراعة.. تلك الملكيات المُسجلة في ذلك الدفتر المُتزين بحرف الـ"ز". الدفتر الذي كان دليلاً عليه.
وبكل أسف تجد القرية مُضرجة بالنيران، لقد وصف الكاتب الأحداث في مرة بأنها معركة وقد كانت فعلاً أنها معركة في قرية بين مُسلمين ومسيحين.. معركة لا يوجد تعادل فيها.. أما أنا أو أنت.. لا يُمكن لكلانا أن يدخل الجنة.. أما أنا أو أنت. فسأكون آلهاً على الأرض وأقتلك. هذا حقي!
"لا يكاد يمرُ أسبوع تقريباً إلا ويسقط قتيل أو يُقلع زرع، أحياناً تُسمم ماشية أو تُحرق دار ودائماً الفاعل مجهول، لا أعرف الحقيقة أبداً، الشرطة في قرية الطايعة باتت مُقتنعة بأن المساواة في الظلم عدل، والأهالي يتسابقون لتقديم البلاغات في جيرانهم بالمركز، ثم يعدلون عن اتهامهم أمامي أو أمام القاضي بالمحكمة، من المُمكن أن أقضي بقية عُمري هنا لأحصي المساوئ ولا أحصيها، دخلتُ في متاهة كبيرة باحثاً عن العدل والحقيقة، شعرت أني أتلاشى بالتدريج، لا أريد التحول لمسخ يُطيع بلا عقل، ولم استطع الاستمرار".
وتلك كانت القضية الثانية الشائكة التي تناولها الكاتب..
فـ"نادر" اسماً ووصفاً دخل في دائرة من الشك في جدوى وجود العدل وجدوى وجوده من الأساس! فما فائدته؟
وهل فعلاً يخدم القانون المجتمع؟ أم السياسة؟ وأين العدل في كُل هذا؟
العدل الذي بفطرته يُريد تحقيقه ولا يُريد غيره.. العدل الذي لو طُبق لما حدثت العديد من المجازر ولما أهدرت العديد من الدماء التي لا تُستحق أن تُهدر. ألا بُد أن تظل هُناك فتنة طائفية ليكون للسياسة دور فعال في حياتنا؟ أم أن كُل ذلك مُجرد إلهاء كبير عن ألعاب وخفايا أخرى تدور ولكننا لا نستطيع أن نراها من كثرة الدماء المُحيطة بنا؟
"السياسة لو تدخلت في القضاء أفسدته والقانون لو تدخل في أفعال الساسة لأصلح من حالهم"
أي والله صدقت يا فايز بك كمال.. فالقضاء العادل النزيه الذي يحكم دون مصلحة شخصية أو أهواء أو من أجل منصب أو مال أو نفوذ.. هو فقط من يستطيع أن يُحقق لنا العدل.. العدل الذي أصبحنا نادراً ما نراه في واقعنا.. ونرى رجال السياسة كرجل الأمن الوطني يفلت بكل شئ و"يُلبس" التهم لشخصاً آخر.. ويُحاكم البعض الآخر على زرعهم للبصل!
أهلاً بك في أم الدُنيا!
نعم الرواية كانت سياسية اجتماعية بدرجة كبيرة، ولكن لا تنسى شخصية "هدى" أبداً..
من أعقد الشخصيات التي قرأتها في حياتي.. شخصية تعتقد أنها بسيطة التكوين ولكن تفكيرها أعقد مما يبدو.. قد تكون سيدة بسيطة تحلم فقط بأن تُحب وتتزوج شخصاً يُحبها لا يُعاملها كآلة إنجاب كـ"خضر" ولكن يُعاملها كـ"زوجة" كـ"رزق" الذي كان رزقاً على حياتها البائسة السوداء من بدايتها.. حتى نهايتها. فقط عندما أبتسم لها القدر وأعطته ظهرها.. حتى طعنها القدر في ظهرها بأحلامها الوردية.
ختاماً..
أصبح (أشرف العشماوي) بكل تأكيد من كُتابي المُفضلين الذي سأحرص أن أقرأ كُل كُتبه السابقة وأنتظر أعماله القادمة بشغف.. لأنه يكتب بحرية وبمنطقية وعن مواضيع شائكة، ومُختلفة وجذابة بسرد ذكي وجيد.
وأترككم مع هذا الإقتباس:
"لم أعد أرى أقباطاً ومُسلمين، رأيت مهووسين مُتعصبين من الجانبين، يعيشون في جحيم طوال حياتهم، ليُثبتوا لتابعيهم أن الآخرين لن يدخلوا الجنة في الآخرة"
ليبقى السؤال الأزلي: من المُستفيد؟