مقدمة:
قرأت هذه الرواية بترجمتها العربية للدكتور سامي الدروبي... وكان علي أن أقرأها منذ زمن حقا...ولا شك بأن المترجم قد أبدع فعلا في ترجمته لهذا النص الأدبي العريق.....وكلما قرأت عملا أدبيا بهذه الروعة تمنيت لو استطعت أن أقرأه بلغته الأم الذي كتبت به...
تدور أحداث القصة في بيترسبيرغ التي تسكنها مختلف طبقات المجتمع الروسي.. وقد كانت روسيا في ذلك الوقت تسعى إلى التوسع وزيادة نفوذها.. فرافق ذلك ركود اقتصادي جعل هناك فقرا خفيا في معظم المدن الروسية الكبيرة مثل موسكو وبيترسبيرغ..
في هذه الرواية يعرض الكاتب الفقر بصورته العارية... الفقر الذي ينزل بالنفس البشرية إلى أدنى المستويات... تخفتي الأخلاق.. تضمحل الإنسانية إلى أحقر صورها حتى تنكشف حيوانية البشر.... يتكالب الفقراء وتستعر نفوسهم ويعتدي بعضهم على بعض..
يوظف دستويفسكي قدرته في الوصف والتشخيص بشكل كبير في رسم عدة شخصيات في هذه الرواية بحيث لا يشبه أحدها الآخر... وهو يغرقك في وصف الشخصية وفيما تفكر به حتى إنك لتشعر أنه تعرفها حق المعرفة...
القصة:
بطل القصة – روديون راسكولينكوف طالب فقير يعتمد في نفقاته على ما ترسله أمه وأخته له.. وقد أجبرت أخته على أن تعمل خادمة عند أحد الأغنياء اللئيمين....
ويحدث أحيانا أن يرهن راسكولينكوف بعض أغراضه الشخصية عند عجوز جشعة طماعة تستغل حاجته إلى المال فتبخسه حقه.. ولهذه العجوز أخت ساذجة تعاملها كالخادمة وتستغلها أيضا في إنجاز أعمالها الجشعة..
يفكر راسكولينكوف في وضعه المالي وفقره ويفكر في وضع أمه وأخته ثم يخطط لقتل تلك العجوز في غياب أختها.. ولكن الحظ لا يسعفه فعندما يذهب ليتقلها يترك الباب مفتوحا وتدخل أختها فيقتلها هي الأخرى وتصبح الجريمة جريمتين...
ثم يحاول راسكولينكوف بشتى الوسائل أن يخفي آثار جريمته ويبعد عن نفسه الشكوك وينجح في ذلك لكنه يبقى فريسة للندم والقلق والتخبط الذي يكاد يقضي عليه....وبسبب انفعالاته يشك به المحقق الذي يجري عليه ألاعيب نفسية ليوقع به ....
يتعلق في هذه الفترة بفتاة خجولة جميلة– سونيا - لكنها فقيرة تضطر إلى ممارسة البغاء لتسد رمق عائلتها.... ثم يعترف لها بجريمته وتدعوه هي إلى تسليم نفسه والاعتراف لعل الله يغفر له..
بسبب الصراع في داخله يقرر أخيرا أن يذهب إلى مركز الشرطة ويعترف بجريمته بعد أن أفلت بالفعل من الاتهامات الموجهة إليه..
يصدر حكم مخفف عليه بثماني سنوات مع الأشغال الشاقة ويقضيها في سجن سيبيريا في انتظار أن يخرج ويلتقي بحبيبته سونيا.
قد تبدو هذه الأحداث عادية... لكن ما يجعلها رواية فريدة هة أسلوب دوستويفسكي في طرحها...
أولا هذه الرواية هي دراسة نفسية سيكولوجية مستفيضة لنفسية القاتل وطريقة تفكيره... تدخلك إلى أعماق عقله لتعرف دوافعه والأسباب التي جعلته يتصرف على ذلك النحو...
ثم إن أسلوب دوستويفسكي فريد من نوعه.. ليس أسلوبا عاديا.. فهو يستخرج من نفسك أعمق المشاعر وأكثرها استخباء واستحياء... ينزل بك إلى أدنى المستويات البشرية... يهزك هزا... يدخل بين لحمك وجلدك وتحت أظفارك... بل ويجعل غداءك لا يستقر في معدتك أحيانا..
الجريمة:
يسرد دستويفسكي ويناقش مسوغات الجريمة ودوافعها التي قد تدفع المرء إلى حد يقدم فيه على إنها حياة شخص آخر...
الفقر؟..الذي طالما نهش ظهره وأقعده في بيته من الجوع وقلة المادة؟
الانتقام؟ لنفسه من تلك العجوز القذرة الجشعة التي لا تنفك تستغله وتستأثر بالمال؟
هل آلى على نفسه أن يحمل عبء هذه المهة ليخلص العالم من هذه العجوز المرابية التي لا تعدو على أن تكون حشرة ينبغي قتلها؟
في مقالة يكتبها راسكولينكوف - وينشرها في مجلة – هو يقسم الناس إلى فئتين: العاديون الطيبون الذين خلقوا محافظين ويحبون أن يعيشوا في سلام – وهم عامة الناس... وفئة الخارقين: الذين يحبون أن يكسروا النظام وهؤلاء ميالون لأن يصبحوا مجرمين...وهم أقلاء جدا...
تمثل الفئة الأولى الناس المسالمين الذين يتقيدون بالقوانين لأن ذلك هو أسلم وأسهل... وأما الفئة الثانية فهي تمثل فئة معينة آثرت على أن تكسر المعتاد وأن تقف في وجه التيار ويمثلها الحكام والقادة والعلماء والمشاهير.. ثم يتطرف راسكولينكوف حتى يخلص إلى نتيجة أن هؤلاء المشاهير لم يكونوا كذلك إلا بعد أن قاموا بإزاحة أناس من طريقهم ليحققوا شهرتهم.. بل إن شهرتهم قامت على ذلك فكل هؤلاء مجرمون بطبيعتهم...بل ويحق لهم أن يقتلوا ويجب.. حتى يستفيد الناس من طاقاتهم وخبراتهم وقدراتهم...
أما السبب الحقيقي الذي دفع راسكولينكوف إلى القتل فهو: الخروج عن المألوف... أن يقطع النهر إلى الضفة الأخرى.. إلى حيث يقف من يستطيع أن يفعل...أن يجرب أن يقتل....
وقد تجرأ وسمح لنفسه أن يصنف نفسه ضمن الفئة الثانية – الطبقة العليا - .. التي لها الحق في القتل... ثم إنه وضع مسوغات لفعلته؛ فقال لنفسه إنه بقتله لتلك العجوز يسدي خدمة للمجتمع بأن يخلصهم منها.. وهو في نفس الوقت يوفر على أخته عناء الخدمة في البيوت.. ويكون لنفسه نواة يبدأ بها حياته من جديد...
إن راسكولينكوف يمثل القدوة الأولى لكل مجرم... فهو يسوغ لنفسه أقبح جريمة في التاريخ وهي القتل..
وهذه جريمة أكبر من القتل نفسه....
العقاب:
لقد بدأ راسكولينكوف يتجرع ألم العقاب منذ أول يوم أقدم فيه على جريمته.. قلق واضطراب...نزاع وصراع... مرض وأرق وحمى... أصبح يفسر جميع الملاحظات اتهاما له.. وكل النظرات إليه شكوكا فيه... لم يذق طعم الراحة يوما واحدا... ولم يهنأ بلقمة واحدة... وأصبح يكره الناس جميعا ويكره نفسه..
ولم يرتح بال راسكولينكوف حتى بعد أن وشى بنفسه ودخل السجن وعمل فيه أعمالا شاقة.... فقد ظل حاله يذكره بأنه في يوم من الأيام خضع لجبروت السلطة والنظام... لقد كُسر كبرياؤه.. لقد سمح لهم أن يتهموه بجريمة .. ثم يحاكموه.. ثم يقتادوه إلى السجن.... لم تكن تلك الأغلال التي في يديه هي التي تؤلمه... إنما تلك الأغلال الخفية التي وضعتها سطوة القانون وجعلته يخضع لهذا كله... لماذا لم يكن باستطاعته أن يحاكم نفسه بنفسه.. وأن يعاقب هو نفسه بالعقوبة التي يراها مناسبة له؟!
لقد كان راسكولينكوف يملك من الكبرياء ما جعله حتى لا يكتشف حبه لسونيا إلا بعد انضاء سنة عليه في السجن...
كان ذلك الاكتشاف هو خلاصه الأخير.... نعم... الحب... هي تلك القوة العظيمة الوحيدة التي يمكنها أن تنشله من براثن الألم والخطيئة....
خاتمة:
لقد نجح دوستويفسكي في أن يجعل القارئ يشفق على الجاني والضحية في الوقت نفسه...
كلنا نخطئ ونفعل أمورا نستحيي منها ثم نندم ونتمنى لو كان باستطاعتنا أن نغير الواقع... وهذا جزء من كوننا بشرا.. إنها قدرتنا على أن يجعلنا شهورنا بالذنب نحاول أن نصحح خطأنا وأن نسعى إلى مزيد من النضج في شخصيتنا....
ونحن في هذه الأيام نعيش في زمن كثرت فيه الجرائم والحروب والقتل... فكم من هؤلاء القادة مجرمي الحرب والسلام ممن يعيشون في ألق السلطة وشهوة القيادة يمارسون "حقهم في القتل"؟
كيف ينام هؤلاء ليلا إن لم يجدوا لجرائمهم مسوغات كمسوغات راسكولينكوف؟
الجريمة والعقاب رائعة دوستويفسكي... من الروايات التي يجب أن تُقرأ... أنصح بها بشدة..