"يا نجم نورك ليه كده بيرتجف...
هو إنت قنديل زيت أو تختلف؟
أنا نجم عالى بس عالى قوى...
و كل ما أنظر تحت أخاف أنحدف!
وعجبى!!"
هذه ليست مراجعة لرواية "1919" بقدر ماهى تحليل ل"ظاهرة" أحمد مراد" نفسها من وجهة نظرى، و الظاهرة هنا المقصود بها فكرة الأديب الشاب الذى ظهر على الساحة الأدبية منذ ست سنوات ليحتل برواياته الثلاث قوائم أعلى المبيعات، و تنشأ روايط لعشاقه على مواقع التواصل الإجتماعى تضم عشرات الآلاف من الشباب المتحمس، و يضيف لهذا النجاح التجارى إعترافا نقديا بموهبته متمثلا فى وصول روايته "الفيل الأزرق" للقائمة القصيرة للروايات المرشحة لبوكر العربية 2014.
و تحليل هذه الظاهرة يستلزم الإجابة عن سؤال ماهى مقومات النجاح؟
المقومات الأساسية فى رأيى للنجاح فى أى عمل أربعة هى: الموهبة، الذكاء، الإجتهاد، التوفيق.
و بتطبيق هذه النظرية على أعمال أحمد مراد كانت النتيجة كما يلى:
- فيرتيجو: العمل الأول للكاتب يشى بموهبة حقيقية تتجلى فى الفكرة الجيدة للرواية و رسم شخصياتها و إتقان حبكتها، و إن كانت هذه الموهبة بحاجة للصقل على المستوى اللغوى و على مستوى التمكن من أدواته كروائى ليتخلص من الترهل الذى كان أكبر عيوب الرواية فى رأيى مما جعل تقييمى لها لا يتجاوز الثلاثة نجوم، أما بالنسبة للذكاء فتجلى فى إختياره لأدب الجريمة الذى يلقى قبولا جماهيريا كبيرا خاصة من فئة الشباب، كما تجلى أيضا فى اللعب على وتر الفساد السياسى و المالى الذى كان السمة الأبرز للمرحلة التى ظهرت فيها الرواية فى 2008 حيث كان الجمهور متعطشا للكتابات التى تفضح هذا الفساد و تواجهه، و لا سيما عندما تكون المواجهة من جانب شخص عادى ضعيف كبطل الرواية الذى يتمكن بذكائه من هزيمة الحيتان و الخروج سالما ظافرا بحبيبة قلبه، و هى تيمة محببة بلا ريب، أما الإجتهاد فيتمثل فى تمكنه من إنجاز عمله الأول بحد لا بأس به من الإتقان و بلا ثغرات قاتلة، مع الوضع فى الإعتبار أنه لم يكن كاتبا متفرغا فى هذا الوقت، يل كان يعمل كمصور فى رئاسة الجمهورية، و هى نقطة أخرى تحسب له أنه كان جريئا بما يكفى للكتابة عن فساد السلطة و حلفائها من رجال الأعمال و الصراع المستتر بينهم، رغم ما قد يعود عليه من ضرر على المستوى المهنى على الأقل، وأخيرا عنصر التوفيق الذى تمثل فى النجاح الجماهيرى الكبير الذى حظيت به الرواية رغم أنها العمل الأول لمؤلفها المغمور فى هذا الوقت و بلا أى نوع من الدعاية تقريبا.
- تراب الماس: هنا فاجأنى أحمد مراد شخصيا بالتطور الكبير فى مستوى عمله الثانى الذى نجح فيه فى التغلب على أبرز عيوبه فى فيرتيجو و هو الملل و التطويل الشديد، و نجح فى إنجاز رواية تحبس الأنفاس من التشويق من أول صفحة لآخر صفحة، إلى جانب الفكرة المتميزة التى أكدت موهبته فى نظرى، و إن كان لا يزال ينقصه بعض التطور على مستوى اللغة، ولكنها كانت مقبولة بشكل عام بما لا يخل بمستوى الرواية التى منحتها خمس نجوم عن طيب خاطر نظرا للمتعة التى حصلت عليها منها، و تجلى ذكائه فى الإستمرار فى أدب الجريمة الذى نجح فيه من قبل، و كذلك المحافظة على خط فضح الفساد و مواجهته –على مختلف الأصعدة بما فيها صفوف المعارضة نفسها هذه المرة- و أيضا من قبل البطل العادى الضعيف الذى ينجح بذكائه فى قهر كل الأشرار و الخروج كالشعرة من العجين فى تيمة لا تخيب، و تمثل الإجتهاد فى الإتقان الشديد الذى خرجت به الرواية ، أما عنصر التوفيق فأعتقد أن دوره هنا لم يكن كبيرا، حيث أن الرواية جيدة جدا بالفعل، و الكاتب صار له إسمه التجارى، كما أن شراء حق إستغلال الرواية سينيمائيا من جانب أحمد حلمى و "ركنها" ضيع عليها فرصة الوصول لجمهور أعرض بالإضافة لإهدار الدعاية المترتبة عن ذلك.
- الفيل الأزرق: هنا تتوافر عناصر النجاح الأربعة بإمتياز، الموهبة متمثلة فى الفكرة المتميزة للغاية فى نوعية جديدة على الكاتب، والشخصيات المرسومة بعناية –من أصغرها لأكبرها- و الحبكة المتقنة، و الإيقاع اللاهث، و الأسلوب السلس الممتع، و إن كان لا يزال هناك عيب اللغة المستخدمة التى يغلب عليها العامية فى الحوار إلا أن هذا من ناحية أخرى زاد من واقعية الرواية و تفاعل الجمهور المصرى و خاصة الشباب معها، أيضا حصلت منى الرواية على خمسة نجوم إستحقتهم لنجاحها فى دفعى للإندماج فى عالمها كلية و الإنبهار الذى سببته لى نهايتها، خاصة مع ميلى للنهايات غير المتوقعة و هو ما نجح فيه مراد هنا بجدارة، الذكاء متمثلا فى إقتحام مجال الأدب النفسى و الماورائى الجذاب و التجارى خاصة للشباب جمهوره الأول، و الإجتهاد الذى تمثل فى "مذاكرة" الموضوع جيدا و الإلمام بكافة جوانبه ، من المرض النفسى للمخدرات للمس للوشم للقمار للأساطير التاريخية، أما عن دور التوفيق هنا فحدث و لا حرج، من الإقبال الجماهيرى غير المسبوق على الرواية منذ إصدارها و حتى الآن، شراء مروان حامد لها و إسناد البطولة فى العمل السينيمائى المقتبس عنها لمجموعة من أنجح النجوم على رأسهم كريم عبد العزيز و خالد الصاوى، و هو ماشكل دعاية قوية جدا للرواية أعطت دفعة إضافية كبيرة لمبيعاتها، و أخيرا ترشيحها لجائزة البوكر العربية و وصولها للقائمة القصيرة، و هو ما ينسب الفضل فيه للتوفيق بالطبع حيث أن المعروف أن هذه النوعية من الروايات فى العالم كله لا ترشح لمثل هذه الجوائز، و أن جائزتها تكون فى حب الجمهور و النجاح التجارى، أما الجوائز الأدبية فلها حيثيات أخرى.
- 1919: و لنا هنا وقفة، فالكاتب الآن لم يعد مبتدئا و لا باحثا عن الإنتشار، لقد وصل إلى مكانة يغبطه عليها أكبر الكتاب ممن لا تحقق رواياتهم واحد على عشرة من مبيعاته، و صار له جمهور عريض ينتظر كتاباته بشغف –دفعنى أنا والصديق هانى عبد الحميد للنزول خصيصا لشراء هذه الرواية صبيحة يوم إصدارها!- و وصل للترشيح للقائمة القصيرة للبوكر – سواء عن حق أو عن حظ!- و بالتالى فهذه مكانة عظيمة تستوجب التأنى و التدقيق قبل إصدار أى عمل جديد، لمواكبة الآمال العظيمة لجمهوره و الحفاظ على مكانته المكتسبة فى قلوبهم، و هو ما فعل عكسه تماما للأسف!!
فقد خانته موهبته و ذكاؤه معا فى هذه الرواية، موهبته التى تبدت هزيلة فى غياب عنصر التشويق الذى كان يغطيها من قبل، لتظهر كل عيوب ضعف اللغة و الأسلوب واضحة كالشمس متمثلة فى ركاكة و إبتذال إلى حد الفجاجة –لماذا يتم إستخدام المرادفة العامية لكلمة قواد أكثر من عشر مرات مثلا فى رواية أدبية بحق الله؟!!- و إفتقاد لأى تعبير أدبى بليغ يعلق بالذهن مع الكثير من التعبيرات الغريبة التى تقف فى الزور –كان أسوأها بالنسبة لى تمثله بقصة الخضر مع سيدنا موسى فى موقف الغلام الذى لا أود إعادة ترديد صياغته المذهلة فى فجاجتها له!- ، و ذكاؤه الذى خانه عندما إختار موضوعا مستهلكا قتل كتابة فى روايات عمالقة مثل نجيب محفوظ و توفيق الحكيم مثلا، بالإضافة لتجسيده فى عشرات الأفلام التى تناولت هذه الحقبة من تاريخ مصر بشخصياتها المفرطة فى تقليديتها، من المومس الفاضلة، للقواد الخسيس، للفتوة النبيل، للوطنى المتحمس، للمتعاون مع الإحتلال –الذى ينقلب بعد فترة وطنيا متحمسا هو الآخر!- للسراى-السلطان فؤاد و الملكة نازلة من أبطال الرواية بالمناسبة!-، للوفد-سعد زغلول و مصطفى النحاس من الأبطال هنا أيضا!- ، ربما كان هناك إجتهاد من جانب أحمد مراد فى دراسة الحقبة التاريخية لكنه لم يخرج منها بأى جديد للأسف، و لم يقدم أى نظرة مختلفة لهذا التاريخ يبرر الرجوع إليه الآن، بخلاف ما فعله علاء الأسوانى فى رواية نادى السيارات مثلا عندما عاد لنفس الحقبة التاريخية ليقدم تأصيلا لمشاكل الحاضر و إسقاطا عليها، و رغم بعض مآخذى على رواية الأسوانى إلا تبدوا طودا شامخا بلغتها و شخصياتها وحبكتها مقارنة بهذه الرواية الهزيلة التى إستحقت منى نجمتين "بالعافية" إكراما لأحد مراد نفسه، الذى أشعر تجاهه الآن بمزيج من النقمة و الأسى على أحد أبناء جيلى كنت سعيدا بنجاحه بشكل شخصى، و أتمنى أن تكون هذه الرواية كبوة يقوم منها، لا بداية لنهاية قصة نجاح كبيرة و قصيرة، إلا أن هنا يأتى دور عنصر التوفيق، فأكثر ما أخشاه عليه أن تحقق هذه الرواية نجاحا بقوة "القصور الذاتى" يعميه عن رؤية مواضع القصور و الضعف عنده ليعمل على إصلاحها، ليصيبه بدلا من ذلك الغرور الذى يدفع لتجاهل النقد و إعتباره هجوما شخصيا و غيرة، و هى أقصر الطرق للهاوية!!
ملحوظات:
هناك خطأ تاريخى فى أول صفحة فى الرواية متعلق بتاريخ إنتهاء إمتياز إإستغلال قناة السويس حيث ذكر أنه 1958 و الصحيح هو 1968.
ذكر على الغلاف أن الفيل الأزرق "فازت" بجائزة القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2014!
و ختاما:
"كلما زاد الإرتفاع كان السقوط مرعبا"