كتاب (الجنوبي) للكاتبة عبلة الرويني،يحدثنا عن قصة حياة نزيل الغرفة رقم 8 في معهد السرطان،والكاتبة لم ترافق فقط هذه النزيل في فترة إقامته آنذاك في المعهد فحسب،فهي رافقته أيضا في فترة إقامته في الحياة،هي كانت صديقته و عشقه الحقيقي و ملهمته و زوجته ،كان اللقاء الأول الذي جمعهما لقاءاً صحفياً فيه لمسة صدفة جميلة و باسمة و مشاغبة ،وتكررت اللقاءات بين القلبين و العقلين مع تباين طرق تعبيرهما و إختلاف نشأتهما،في هذه اللقاءات كانت هناك مشاحنات عشاق و عتب فراق و الكثير من الشعر و قليل من النثر،كان الشعر وفيراً لأن النزيل المتيم كان شاعراً ،أما النثر الذي خطه فكان ليرد على محبوبته،وقد شكى في كلماته من بعدها عنه ،وهي شكت من قلة بوحه لها،هذا النزيل الذي لم تستطع جدران معهد السرطان من منعه من التجول في شوارع القاهرة و من الإستماع إلى شهقاتها ،هو الشاعر الراحل أمل دنقل....
إنه الشاعر الثائر أمل دنقل الذي إدانته طباعه و شفعت له أبيات شعره،ولد حاملاً إسم محمد أمل دنقل ،و إكتفى لاحقا ً بأن يحمل إسم أمل دنقل كأنه يريد أن يشد الأمل إليه حتى وهو يعرف عن نفسه،وهو كثيرا ما كان يصدم من يلتقي بهم لأول مرة ربما ليكسر حواجز الكلمات التقليدية،و ربما لسبب ذكرته لنا زوجته وهو رغبته في أن لا ينجرح،فهي رأت ما هو أبعد من من جمود تعابير وجهه و هدوءه وحتى فيضانه في الهجوم،هي رأت قلباً طوع نفسه على الصدمات،قلباً تعرض ليتم الأب في الصغر،و تحمل مسؤولية عائلته في ذلك الحين،هو قلب تعود على التضحيات فصار يستغرب حينما تقدم له العاطفة أو حتى الهدايا،هو كان دؤوباً على العطاء و مستهجناً للأخذ،هو لم يكن يريد أن يحب فيُهجر،هكذا رأته الشابة الصحفية التي أصرت على الزواج منه بالرغم من كل الفروق بينهما،فهي أتت من أسرة في حالة مادية موسرة و إلتحقت بتعليم مميز،وحصلت على الشهادة الجامعية و لكنها دائما كانت تميل قلبها ميلاً كاملا لمصريته،أما أمل دنقل فكان إبن الصعيد الذي كلما عرفته تيقنت بإنه لم يغادره إلا كجسد،فروح أمل دنقل بما فيها من كرم و سخاء و أيضا عزة نفس و كبرياء و كرامة متمسكة بالصعيد،فمع توجهاته اليسارية و إنفتاحه و قراءاته المتنوعة في الأدب و غيره ظلت روحه مرتدية الجلباب الصعيدي و ظل متأثرا بالعمة التي إرتداها والده شيخ الدين و المتتلمذ في الأزهر الشريف، وإن كان الإبن الذي إرتبط إسمه بالشيوعية لم يكمل تعليمه...
كثرت نظرات الإستغراب من إقتران عبلة الرويني و أمل دنقل ليس فقط نظراً لما تم ذكره آنفا من عدم تطابق نمط حياتيهما ،فأحوال العريس المادية كانت متعثرة للغاية حتى إنه لم يكن يملك ثمن سجائرة في بعض الأحيان،حاول العريسان بعد الإقتران ببعضهما السفر إلى الخارج بحثا عن فرص معيشية أفضل و لكنهما لم يتمكنا من تقبل فكرة العيش خارج مصر،وإستمرت علاقة الصداقة بينهما و كان لا يحب أن يتركها وحيدة،فكانت خطواتهما في حضور الجلسات الأدبية و التجول في شوارع القاهرة متطابقة، وجربت الحبيبة و الزوجة أن تستفز صمته ولكن في كل مرة كان يهزمها،وكانت تتعجب من الحوار الصامت الذي كان يدور بينه و بين أمه و إحترمت ذلك،و عندما توجهت لبلدته في الصعيد أحست بإن أهله و من ضمنهم أمه لم يكونوا يتوقعون أن تغير شيء من أجلهم،فهي بنت المدينة و إن كانت قد إرتبطت بإبنهم،و كان يحمل هذه التوجه كذلك مع إنه طلب منها أن ترتدي كما ترتدي النساء في الصعيد...
هذان الزوجان عاشا معاً حياة غير إعتيادية لكثرة تنقلهما من منزل لمنزل لضيق أحوالهما المالية،فعاشا على إلتهام أبيات الشعر و الأغاني،كتب لها شعره و جعلها وطناً لقلبه،هي إستمعت لأبياته و شهدت على صدقها،و حضرت مشاكساته مع أصدقائه،وقد كانت علاقته بهم ملفتة جدا،فحواراته مع الأديب يحي الطاهر عبدالله إتسمت بعنفوان قسوتهما و مع ذلك فكانا أعز الأصدقاء،وكانت الكاتبة صافيناز كاظم كثيرا ما تعاتيه و تلومه و يحدث أن تجافيع و من ثم تصطلح الأمور بينهما،كان متفقا و متفهما في كلامه مع جابر عصفور ،و كان مندفعا و هو يحدث بعضهم و لطيفا مع البعض الآخر،ولم يطلب من أحد منهم مع مكاتهم ان يكتبوا عنها بإستثناء الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي كتب عنه حينما فارق الحياة،أما من لم يعرفوا الشاعر أمل دنقل فمنهم من كانوا يهابونه فيترددون في إستضافته، و منهم من منعوا من نشر أعماله لأسباب سياسية ،و منهم من يكلمونه بحذر لكي لا تثور كلماته!
وفي آخر صفحات من الكتاب،شاركتنا الكاتبة بقصائد نظمها زوجها و هي متجرعة بهيجانه على التقاليد الأدبية ،وهي وضعت الأبيات التي نثرها بخط يده ،و من ثم صوراً جمعتهما كصورة ليلة زفافهما و صوراً له مع أصدقائه خاصة في فترة مرضه،وصورة له هو مع أهله في الصعيد و هي التي تم إستخدام جزء منها كغلاف الكتاب،وصورة لوالدته و هي بجوار قبره تبكيه ...
كتاب (الجنوبي) للكاتبة عبلة الرويني،تخبرنا فيه محدثتنا عن زوجها الذي إرتبطت به كصاحب قلب فاق سعة ما يحمل من أحاسيس و مفردات،وعن شاعر حجب قلمه و لكن ما سطره إنتشر لتعرف الناس (الجنوبي) الذي غرست عرةقه في الصعيد كما أراد أن يعرف ...