مرة أخرى يتحفنا الدكتور أيمن العتوم بإحدى روائعه الفنية...
كنت أتوقف بين الصفحات وأكاد أرفع صوتي مخاطبا إياه أن ارفق بنا يا دكتور أيمن...فقلوبنا ليست من حديد.... وحتى الحديد يذوب إذا أوقد عليه في مجمرة الحب أو صُبّت عليه أحماض العشق ....
بتلك الرواية - المسطر على غلافها الداخلي إهداء من الدكتور أيمن – عشت الأيام الثلاثة الماضية .... بين مدّ الحب وجزر الغياب... ولولا انشغالي لأتممتها في جلسة واحدة...
أخذتني هذه الرواية.. وحملتني بين أسطرها إلى تلك القرية الصغيرة التي نشأ فيها بطل الحكاية... وكنت هناك بروحي... أتحسس العشب الرطب تحت قدمي... وأحس بللفحة النسيم العليل على خدي... ويغرق البصر في لجة الأحاسيس ويغيب في سماء المخيلة...هي لحظات عشتها في صغري.... أسترجعها الآن بكل تفاصيها ... والفضل يعود إلى روعة التصوير ودقة الشبيه.....والتفنن بانتقاء الكلمات...
يربى (واثق) – بطل القصة - في الريف في عائلة فاضلة.. ويقاسي بعض المشقات في طفولته كغيره من أطفال القرى.. إلا أن أباه ذو حكمة ونظرة في الحياة .. فيتلعم من الكثير ويأخذ عنه الشجاعة ... وله جدة ترأف به وتحنو عليه... وله أم رؤوم عطوف شفوق... وله أخت كبرى تعتني به ويتعلم منها الكثير أيضا... فيسهم هذا الجو العائلي الدافئ في تنشئته نشأة قوية...
ينتقل (واثق) إلى المدينة ليدرس في الجامعة... وهناك يلتقي بحبيبته ... لكنه لا يلبث طويلا حتى يدخل السجن..
هناك ثلاث أنواع من الجامعات في الدنيا؛ الجامعة الأكاديمية والحياة والسجن... وواحدة فقط هي التي تعطي "الشهادة"..
الجامعة الأكاديمية التي تمنح الطالب شهادة علمية....هي أيضا فرصة كبيرة لصقل شخصية الطالب وتنمية فكره وشحذ عزيمته... ولكن يا حسرتا على جامعات هذه الأيام؛ فلا علم ولا ثقافة ولا حتى شخصية....
كنت ترى في القديم شبابا في الجامعة يتحاورون ويتجادلون في أمور ثقافية أو عقائدية أو فكرية... لكنك تراهم اليوم يتجادلون – إن فعلوا- في أتفه الأمور ..فتحولت النقاشات من الجدال الثقافي إلى الجدال "الكروي"...
وكنت ترى المحبين وقد غمرت عيونهم تلك النظرات العاشقة التي تفصح عن حب طاهر عفيف... لكنك ترى الآن بين المحبين نظرات آثمة بل وضحكات ماجنة وحركات خليعة لا تدل إلا على علاقات قذرة... إلا ما رحم ربي....
ومرة أخرى يأخذنا الدكتور أيمن العتوم في رحلة داخل أقبية السجون – الجامعة الثالثة...
والسجن – كغيره من الجامعات – هو مفرق طرق؛ فإما أن تتخرج منه بمرتبة شرف أو يجرّك إلى بحر الضياع ....وطبيعي أن يكون صاحبنا (واثق) من الثلّة الأولى..حيث أجاد ونجح في الجامعتين الأخريين....
الحب والسجن ... ضدان وصنوان... الحب يقود إلى اللقاء والسجن يحول دون ذلك...
يقول الدكتور أيمن: ((يصبح الحب نوعاً من السجن إذا حركته الشهوة, ويصبح فضاءً مطلقاً من الحرية إذا حركته العفة))..فكيف بالله عليكم بعاشق في غياهب السجن؟! أفلا يكون الحب هو متنفسه الوحيد؟!
الحب هو ذلك الثقب الصغير الكبير الذي يستنشق السجين منه عبق الحياة ... فيحيل زنزانته إلى روضة خضراء...
يجوع السجين إلى الحديث مع حبيبته أكثر مما يجوع إلى الطعام... ويشتاق إلى رؤيتها أكثر مما يشتاق إلى الضياء.... ويجد (واثق) خلاصه في الرسائل... فيكتب ويكتب .... وهو حتى لا يعلم إن كانت رسائله تصل إلى محبوبته أم لا... لكنه (واثق) من أن كلامه يصلها ولو لم تقرأ الرسائل...لأنه كان حديثا بين روحين شفافتين يخترق كل الحواجز ويعبر حتى حدود الزمان....
كان لدي إحساس قوي وأنا أقرأ الرواية بأن شخصية (واثق) فيها قريبة جدا من شخصية كاتبها...
الرواية رائعة باختصار وأنصح بها الجميع...
أحييك دكتور أيمن على هذه الرواية العبقرية..... دام قلمك صدّاحا بالحق ونصيرا للخلق الطاهر الشريف...