في الحياة اليومية ينجو الأشرار من العقاب ويضيع على المحسنين الثواب ويجني الأقوياء ثمار النجاح أما الضعفاء فلهم الخيبة وسوء المآل..هذه هي قصة الحياة..
يرسم "باسيل هولوورد" لوحة غاية في الجمال لصديقه الشاب الساذج الوسيم "دوريان جراي", ثم يعرف الرسام دوريان بصديقه اللورد "هنري ووتون و منذ ذلك اليوم تتغير حياته تماماً حين يسممه اللورد "هنري ووتون" بأفكاره و نظرياته و يقنعه أن الهدف الوحيد من الحياة هو الجمال وإشباع الحواس وأن تبقى شاباً :" حي على الشباب إنه كل مافي الحياة من صور النعيم" هكذا تتسلل أفكار هنري اللاذعة إلى عقل دوريان الفارغ! يغار دوريان من الصورة لأنه يكبر بكل دقيقة تمر بينما هي خالدة بجمالها, تحتفظ بعنفوان الشباب على مر السنين, فيتمنى لو تشيخ الصورة و يخلد هو في جماله و شبابه الذي أقتنع فعلاً- الشكر للورد هنري- أنه سر الحياة! فتتحقق أمنيته في البقاء شابا للأبد بينما تتحمل صورته التي رسمها له صديقه "باسيل هولوورد" أثر الِّكبر لكنها أيضاً تصبح سجل لخطاياه وذنوبه, وتبقى شاهداً على مدى فساده الأخلاقي وسعير نار شهواته التي تلظى.
هل يمكن للنفس البشرية أن تتمادى في الشر والطغيان طالما أنها لا ترى أثاره فيها! كيف للضمير الإنساني أن يحجب مرآته التي يرى فيها نفسه! أم الضمير هو المرآة التي نرى فيها أنفسنا أصلاً؟!
دوريان! يالك من مسكين..أنت ضحية أمنياتك! ألم يقولوا لنا دائماً: " أحذر مما تتمناه, Be careful what you wish for "
لو أنني كنت محل دوريان أحتفظ بصورة تسجل كل ذنوبي تشيخ الصورة و تزداد قبحاً و هي بعيدة عني لا أرها في استمرار لأني مستغرقة في شهوات النفس البشرية التي احترت علام فطرت هي !
لاشك أنني سآتي العجائب مثلك يادوريان! و لكن مرآة ضميري أمامي تماماً كل أخطائي تسجل لحظة بلحظة, لذلك هي تصحح لحظة بلحظة! بينما أنت يا دوريان حاولت تصحيحها دفعة واحدة, أردت دفع ضرائبك المتأخرة لدى مرآة ضميرك المفقودة أو بالأحرى التي اخترت أنت بنفسك أنت ترميها في حجرة الدراسة المهجورة في الأعلى! و لأن سجل آثامك كان مليئاً مزدحماً بالذنوب! أتى "عقاب" الضمير قاسياً !! كل القبح و الكِبر و الندوب و آثار الزمن تحل عليك مرة واحدة قوية مندفعة سئمت من الصورة المحبوسة فيها! متَ يا دوريان قتيلاً بذنوبك! مشنوقاً بملذاتك! غريقاً بدموع و دماء الحيوات التي دمرتها!
كيف لكلام اللورد هنري المسموم أن يؤثر فيك أكثر مما أثر فيه! أم أن اللورد هنري كما وصفه بازيل:" لا يتحدث إلا بالشر ولا يفعل إلا الخير!" هل ما فعله بك خير؟ أم أنه لم يفعل شيئاً أساساً؟
كل ذلك كان بداخلك منذ البداية! كانت أرض الشر فيك خصبة بذور الخطيئة تنتظر بعض كلمات اللورد هنري أو غيره حتى تنمو تسقيها كل يوم بما تشربته من روح هنري الجيد في الحديث حتى تثبت أنك جيد في الفعل! هل لوحة بازيل هي ما دمرتك فعلاً و جعلتك حاقداً عليه حتى قتلته؟ أم سموم اللورد هنري المنطوقة؟ أم أنك ضحية نفسك؟ لا أعلم هل أشفق عليك أم أمقتك؟ لا أعلم شيئاً مذ أول سطر بهذه الرواية..ولهذا بالضبط هي عظيمة!
كان اللورد هنري يقول:" ما أشبه الخضوع لأفكار الغير بالعبودية, و ما أشبه إخضاع الغير لأفكارنا بالاستعباد. إن التأثير في الغير يُكسب الإنسان إحساساً بالقوة لا نظير له في الحياة. فما أجمل أن تمتد الروح إلى الخارج و تسكن جسداً آخر, ولو للحظات معدودات.."
ضحكت! و غضبت! هل هذا ما تمارسه عليَّ يا أوسكار وايلد! هأنا خاضعة مستعبدة برضا و سعادة بالغتيين! أوسكار وايلد في قبره منذ 115 عام وأفكاره تحاصرني و تسكنني حسب وصفه!
عند قراءتي كنت دائماً أضع نفسي ند لند أمام الكاتب! أتصيد أخطائه! أفتش عن تناقضاته! هه ولكن غضبي من أوسكار وايلد الذي كان يشعرني بالضعف أمام كلماته الرنانة و أسلوبه الساخر يجعلني أعيد وأكرر وعدي الذي دائماً أقطعه على نفسي" لن يأخذ أي كاتب نصيبه من عقلي إلا إذا فرضه فرضاً وفاز بحرب التفكير الناقد الذي يغربل أي كلمة يقولها" نعم! لن أخضع إلا لما يستحق الخضوع! ثم أضحك بألم حين أجد نفسي واقفة أمام المرآة لدقائق طويلة و يتردد في سمعي نظريات اللورد هنري عن الجمال, وأضحك مرة أخرى حين أبحث عن ذنوبي التي سجلها الزمن في ملامح وجهي, أتأمل يدي باحثة عن كل آثر و أفتش بذاكرتي عن خطاياي التي تستحق أن تخط توقيعها فيّ! أصبحت أتفرس في وجوه الناس محاولة أن أستشف خطاياهم, عبثت بمعايير الجمال, حيرتني و أصبحت أعيد التفكير في نظرياتي عن العمق والسطحية, هذا هو الأدب الحقيقي, نحن نحتاج هذا النوع من الكتب التي تكون كالفأس الذي يحطم الجليد المتجمد فينا كما وصفه كافكا.
إذا أردت أن تعرف حقيقة إنسان ألبسه قناعاً.
يا ترى ماذا ستكون حقيقتنا لو ارتدينا أقنعة تسترنا من عواقب أفعالنا!
هذا ما ستجيب عليه هذه التحفة الأدبية التي تسحرك بكل حرف فيها.