القراءة لدوستويفسكي هي قراءة من نوع خاص جداً، أول انطباع عن كتاباته هو ذلك الظلام الذي يكتنفها، مهما تنوعت مشاهده كان اللون الأسود هو الطاغي فيها ولو كان المشهد في الطبيعة نهاراً والشمس مشرقة .. .. ما أود قوله أنه يتكلم بإسهاب شديد عن ما يحدث داخل تلك النفوس البشرية لشخوص رواياته، ولأنه وصف بأنه خير من عبَّر ونقل الواقع الروسي في الفترة التي عاش فيها في رواياته فإن معاناة هذا الكاتب من واقعة واضحة جداً فيما يكتب، وبطريقة أو أخرى نجح في إيصال تلك السوداوية في مشاهده من خلال ذلك الغوص في الدواخل والخروج للسطح بمشاعر و ردود أفعال أحب أن أطلق عليها كلمة "مسرحية" لما فيها من قوة تشعرك أنك تشاهد نصاً مسرحي رغم انه لا يحمل من خصائصه شيئاً
هو يكتب كلاماً يجب التنقيب بين سطوره لفهمه، يرغم من يقرأ أن يتوقف قليلاً و "التفكير" فيما قرأ وكلما سمحت لنفسك بالغوص قليلاً اكتشفت المزيد .. .. ليس سهلاً ما يكتبه هذا الرجل
هنا في هذه الرواية "الأبله"، نتعرف على الأمير ميشكين "البياض" الوحيد في الرواية، كلما ازددت تعمقاً في النص استغربت أن يكون هذا الأمير أبله، ماذا يقصد دوستويفسكي بأن يدعوه بالأبله؟! وهو الوحيد العاقل في زوبعة شخصياته
كعادة دستويفسكي في هذه الرواية أيضاً تمر العديد من الشخصيات أمامنا، تكون في مرحلة معينة مركز الاهتمام ولها أهمية كبيرة ومرة أخرى مجرد شخصيات وظيفتها فقط أن تشغل حيز لا أهمية له .. .. أحياناً في الواقع "كثيرة" تكون المشاهد كرنفالات من المهرجين والاستهزاء والفضائح فهذا ما يعتمد عليه دستويفسكي ليبين لنا لماذا الأمير ميشكين أبله، فهو وسط مجموعة من المجانين و العاقل الوحيد بينهم هو في الواقع ليس إلا أبله بنظرهم
(ليس يحمر وجهي خجلا من مرضي هذا. لكن وجودي في المجتمع زيادة. لا أُبدي هذه الملاحظة من باب الشعور بالكرامة. لقد فكرت ملياً خلال هذه الأيام الثلاثة فانتهيت إلى أن من واجبي أن أنبئكم بذلك صادقاً عند أول مناسبة. ثمة أفكار معينة، أفكار رفيعة سوف أمسك عن الكلام عنها حتى لا أُضحك جميع الناس ..... أنني لا أعرف القصد والاعتدال. لغتي لا تناسب المعاني التي في ذهني، فهي لذلك تغض من قيمتها وتفسدها)
الأمير ميشكين مريض بالصرع وتكلم دستويفسكي عن ذلك كثيراً، بالطبع هو خير متحدث بحكم انه مصاب أيضا بهذا المرض في الواقع .. .. نوبات الصرع وما يسبقها من دقائق تكلم عنها كثيراً، الدقائق التي تسبق النوبة أفرد لها العديد من الصفحات لكونها اللحظات التي يكون فيها الأمير ميشكين في قمة الصفاء الذهني والفكري، في الواقع يقال أن دستويفسكي عاش هذه اللحظات وجادت عليه بروائع أفكاره الروائية
الحب في هذه الرواية هو من نوع آخر، بعيداً عن السطحية في العرض تنازعت الأمير المشاعر بين شخصيتين رئيسيتين في الرواية "آجلايا" الطفولية المتعطشة للحياة والدراسة والراغبة في الهرب من محيطيها المحافظ ،الثري والسخيف الذي وضع القيود ورسم مستقبلها مسبقاً، وبين "ناستاسيا" المالكة لنفسها الحرة من القيود والجامحة في حياتها لأقصى الحدود .. .. نموذجان لامرأتان مختلفتان وقع الأمير بينهما في صراع
معارضة الحكم بالإعدام، فكرة الجمال لإنقاذ العالم، شكل المسيح في لوحة "هانز هولبين" بعد إنزاله عن الصليب وما تثيره في نفوس من تعودوا على صورته الاعتيادية .... وغيرها الكثير، جميعها أفكار لا أحد يستطيع أن يتخيل لأي مدى من الممكن أن يذهب بها دوستويفسكي، عندما يبدأ لا أحد يستطيع إيقافه من اللحظات الممتعة في الرواية في جزئها الثاني عندما يبدأ في الحديث في احد فصولها عن "الناس العاديين" اقتبس منها مقطع لأنه ذهب بهذه الفكرة لأبعد الحدود (هناك أناس يصعب على المرء أن يقول فيهم شيئاً يصفهم ويصورهم دفعة واحدة في أبرز ما يخصهم وأوضح ما يميزهم. أولئك هم الذين اصطلح على تسميتهم باسم العاديين وهم أكثرية المجتمع في الواقع إن الأدباء يجتهدون، في رواياتهم وأقاصيصهم أن يختاروا نماذج اجتماعية وأن يرسموا هذه النماذج الاجتماعية في أقوى صورة جذابة وأجمل أداء فني. وهذه النماذج لا توجد في الحياة كاملةً ذلك الكمال إلا استثناءً، غير أن الأفراد الذين يصوَّرون هذا التصوير هم أقرب إلى الواقع من الواقع نفسه إن صح التعبير ..............
إذاً هو دوستويفكي لا أحتاج لتنبيه القراء من حرقي لأحداث الرواية، فالقصة حدث جانبي والمهم هو المشاعر و الصراعات النفسية لشخوص رواياته، لفكره تستدعي الوقوف عندها تنشأ عن شيء أحياناً غريب كصورة على حائط تحولت لمناقشة قد تنتهي "بأن يكفر المسيحي بديانته" ..
لا يمكن تقييم هذه الرواية فور الانتهاء منها .. .. تحتاج "صفنه" على رأي إخواننا الشاميين وهذا ما حدث معي بعض ما جاء فيها رائع روعة الخمس نجوم ولكنها بالمجمل كانت جيدة تستحق نجمتان ونص أقرب للثلاثة
ملاحظة ما بين (....) مقتبس من الرواية