بدأتها مساء الاثنين وأنهيتها ظهر الثلاثاء ، كانت يداي متشبثتان بالجهاز الذي أقرأها منه لا تستطيعان إفلاته ولا تريدان، حتى تملّص منهما بأن أنهى شحن بطاريته وطالب بإفلاته لشحنها!
لم أستطع يومها أن أنام في موعدي ، فقد كانت كلماتها تتخبط في رأسي محدثة دوياً لم أعرف له مخرجاً سوى بقراءة المزيد ..
قرأتها في وقت فقدت فيه الشعور عند مشاهدتي لمعاناة الآخرين ، فظننت أن مشاعري قد تبلدت ولن أشعر بأحد بعد اليوم ، ولكنني كنت مخطئة ، صُدمتْ ، وجاءت صدمتي رحمة لقلبي، فغرت فاهي وفتحت عيناي على اتساعهما لفظاعة ووحشية ما قرأت..
وليتني هنئت بنومي بعدها .
صرخ قلبي من أعماقه ألماً وظل يعتصر دموعه التي أبقاها حبيسة داخله -كما هم- إلى أن حرر الدموع لتغزو العيون وتغرقها في النهاية ، حين تحرروا .
تركتها ، وبقيت أسيرة خيالاتها المفجعة، في زنزانة عقلي الذي لا يريد أن يصدق بعد ما قد قرأ.
تحررت بعدها ونسيت ، ولكنهم لم يتحرروا بعد، ولم ولن ينسوا ، وبقوا على حالهم الحاضرة ، تنهش عقولهم أحلام الحرية وأمنيات الحياة التي علقوهاعلى جناح السراب فحلقت بها بعيداً إلى حيث لا تنالها أيديهم، وتنهش الأجساد سياط الطغاة ، فلا يتحقق خلاصهم من أيهما .
هم الآن هناك ، في تلك العتمة الموحشة ، عالقين بين فكي الموت ، يلوكهم بعذابه ثم يرميهم ، وقد يستسيغهم فيبتلعهم لينتشلهم من جحيم الشقاء إلى خلودهم الأبدي . وغالباً ما يتركهم لعذاب يوم آخر .
قصة الماضي المستمر ، والحاضر الغائب عن الأذهان إما غفلةً أو عمداً .
هناك ، كانوا عشرين ألفاً وكان المكان واحداً ، أما اليوم فهم نصف مليون موزعون في أقبية الوطن السليب ، أو تحت أرضه ، في القبور المنسية المجهولة.
قرأت القوقعة قبلها بسنتين ، ومن ثم قرأت هذه ، لتكوّنا معاً جزءاً يسيراً جداً من الصورة الحقيقية الكاملة ،لتكونا مجرد سرد لتجربتين من ضمن مئات الآلاف ، وربما الملايين .
تظهر أجزاء مبعثرة من الصورة تباعاً، ولكنها لن تظهر كاملة أبداً ، إلا في أذهان من عاشوا ضمن إطارها وذاقوا لسع شقاءها المرير.
سبعة عشر عاماً بلا تهمة ولا جرم ولا حكم ، رحلت أم إياد إلى جوار ربها ورحل الأخ والأب ، كبرت لمياء الصغيرة ولم تعرف أباها ولكنه عاد أخيراً .
كم من إياد سوريّ مغيب في ظلمات القهر والذل ، يعيش على جناح الموت يوماً ، ويوماً على جناح ما يشبه الحياة وليس كالحياة بشيء؟
كم من لمياء سوريّة صغيرة كبرت وعاشت العمر بانتظار عودته ، دون أن يعود ودون أن تشم من نسيم حنانه شيئاً ؟
وكم من أم لمياء تنتظر الحبيب الغائب تأمل عودته ولا تفكر في أنه قد يكون ... لا لا لم يمت وسوف يعود يوماً.
وكم من أم سهرت الليالي ، رافعةً أكف الدعاء والتضرع والرجاء بعودة ابنها المغيبّ ، طفلها الذي لا يكبر في عينيها أبداً؟
وكم من أخت اليوم تنام ووسادتها مضرجة بدموع جرعها العميق على أخ خرج ولم يعد ؟
وكم وكم وكم ..
من لك يا سورية في آلام أمسك و يومك وغدك إلا الله، من؟
يااارب عجل فرجك يا الله.