(تحتوي هذه المراجعة على حرقٍ لأحداث الرواية ونهايتها)
يبدو أن رواية “المخوزق” في جزء منها تعقيب على رواية “المؤرخة” - أو “المؤرخ”، اعتماداً على من يعتبره القارئ بطل الرواية الحقيقي - لإليزابِث كوستوفا. المشكلة أن رواية كوستوفا نفسها رديئة، وهذه الرداءة تجد طريقها إلى “المخوزق”. في رواية كوستوفا، ثمة صراع - على طريقة “ملائكة وشياطين” و”شفرة دافنشي” - بين فرسان التنين وبين الإنكشارية، بين السلطان محمد الفاتح وبين فلاد دراكيولا، بين الإسلام والمسيحية.
رواية “المخوزق” تفتقد الصراع العابر للقرون، إذ تحدث في غضون شهر ونصف - أو أكثر قليلاً - مُنذ خروج أورهان أفندي ومرافقه دينيز من إسطنبول، حتى وصولهم إلى بوخارست، ومن ثم هروبه ووقوعه بين أيدي الغجر. قصر زمن أحداث الرواية يُفترض به أن يجعلها أكثر تماسكاً وأغنى بالتفاصيل، لكن التفاصيل الوحيدة التي كانت الرواية غنية بها هي تفاصيل القضم والتقطيع وطرق الموت البشعة، الأمرُ الذي يجعل مواصلة قراءتها بعد تركها في غاية الصعوبة. لهذا السبب، فإن قُصر الرواية نعمة.
بخلاف الإسراف في تفاصيل القتل والتمزيق، تمتلئ الرواية بالكليشيهات: الغجر يخدمون فلاد دراكيول، ويتصرفون كما يتصرف أي سيرك غجري في أي فيلم يدخل فيه الغجر مثل عنصر غرائبي. بالتأكيد يخدم الغجر فلاد دراكيول، فهذا مُقررٌ عليهم في معظم الأعمال التي تتعامل مع أسطورة دراكيولا مباشرة. ولا ضرورة لأن يكون هناك منطق، فالغجر يحبون من يضطهدهم ويعذبهم ويجبرهم على أكل لحوم أهليهم.
من مشاكل الرواية أنها تحاول أن تكون رسالة في غرام الدولة العثمانية . (حيث إنّه لم يعد الآن مسموحاً أن يصف أحدٌ الدولة العثمانية بأنها “المحتل التُركي”). لكنها تفشل في تبرير كون محمد الفاتح خيراً أو معقولاً على مستوى فكري، وتتبنى نفس النظرة العُنصرية الأوروبية للغجر، من دون أن تحاول نقض الفكرة الأوروبية عنهم - ولو من باب مكايدة الكفار. شيلا الغجرية تتحدث عن الغجر بكلامٍ موسوعي يصعب أن يقوله غجري عن نفسه في القرن الخامس عشر. كواريل الغجري العملاق المعتوه خادم الشيطان. كبراء الغجر الذين يتحدثون بالنبؤات المُختلة.
كذلك، فإن الرواية تتحدث بوضوح عن أن فلاد قد لاقى العسف والعذاب وسوء المعاملة من قبل الأتراك في فترة كونه رهينة، وتلومه على ما أصابه، حيث أنّه شيطان صغير، مع أنّه كان رهينة أُخِذ غصباً عنه إلى بلاد أناسٍ يدينون بغير دينه ويتحدثون بغير لسانه، أسيراً عندهم، يُضرب ويُهان ويُجبر على تغيير دينه، ويُفترض به أن يكون مُمتناً للأتراك! بمثل هذا الخطاب، فإن الرواية تنقض غرضها، وتقدم فلاد دراكيولا بوصفه بطلاً قومياً لوالاشيا، كما أنها تقدم والاشيا في صورة المكان الذي لا يُمكِن حُكمه إلا بالطُرِق البشعة التي يُمارسها دراكولا.
في هذه الرواية المؤيدة للسلطان، فإن الشيء الوحيد الذي يجعل السلطان جيداً إنّه لا يقص أعناق الناس بحنك الشيطان، وعدا عن ذلك، فإنّه طاغية عديم الكفاءة، يثق في فلاد رغم أنّه يعرف سوء طبعه وكرهه للأتراك والمسلمي ويساعده حتى ينقلب عليه، ثم يولي رادو أخاه، ورادو بيك والٍ ضعيف ولا يحترمه الوالاشيون، ويعجز عن البحث عن ولدي فلاد دراكيولا رغم أن أي طاغية (يعرف شغله) يعرف أنّه لا استقرار في البلاد ما لم يُعثَر على أبناء فلاد دراكيولا. وليختم السُلطان سلسلة قراراته التي تنم عن قلة تبصر قاتلة، فإنّه يُرسِل شخصاً تافهاً مثل أورهان أفندي لمهمة عظيمة جليلة الشأن، وكأنّه ليس في بلاطه أو المُقربين منه، أو أيٍ من أبنائه أو خلصائه أو... من يصلح للمهمة، وكأن الأناضول قد خلت إلا من أورهان أفندي.
هنا ينبغي التوقف للحديث عن أسوأ ما في الرواية، البطل: أورهان أفندي. أورهان يعشق السلطان التركي حد العبادة، وهذا ليس غريباً. وأورهان يعتقد أن الفتح العُثماني لأرض الروملي خيرُ عظيم. هذا في حد ذاته ليس أمراً سيئاً. السيء أن أورهان خبيث، قاسٍ، وجبان. كما أنّه أقل المُحققين كفاءة في التاريخ.
المُفترض أن السُلطان محمد الفاتح قد أرسله لدحض أسطورة فلاد المخوزق بناء على ما توسمه فيه من مهارة في التحقيق، حيث أنّه قد أثبت براءة نفسه من جريمة اتُهِم بها قبل سنة من الأحداث باستخدام طُرقٍ (علمية حديثة)، ورُبما اعتقد السُلطان أن تابعاً تافه الشأن له اهتمام بالعلوم الحديثة وولعٌ بالموت يصلح للإرسال إلى أرض الروملي. لكن أورهان أخفق إخفاقاً ذريعاً في مهمته، والشيء الوحيد الذي كان قادراً عليه في الرواية كُلها التحديق في جثت الموتى وجروحهم وتشوهاتهم. معدة أورهان أفندي قوية. هذا الشيء الوحيد الإيجابي الذي يُمكِن وصفه به - إذا كانت هذه صفة إيجابية.
طوال الرواية، لم يُبدِ أورهان أفندي أي فضولٍ تجاه ما حوله - مع أن صفة المُحقق الأكثر أهمية الفضول الشديد. ولم يباشِر بالسؤال عن أحوال المكان وتقصي شؤونه حين وصل - رغم أنهم استقبلوه في قبوٍ تحت الأرض، والمفروض أن يجعله هذا يتساءل عمّا إذا كانت هُناك أقبية أخرى في القلعة، ويباشر التحقق منها، والتحقيق في شخصيات سُكان القلعة وروادها. ما يهتم به أورهان أفندي أن يغتسل في الحمام ويحظى بالعناية والتدليل، ويهين دينيز الخصي بعبارات ميزوجينية حقيرة، ويطلب امرأة لليلة. أي أنّه لا يخرج عن ستيريوتايب الوالي التُركي الخنزير - رُبما باستثناء الشذوذ الجنسي. وهذا أمرٌ طريف للغاية في رواية تُدافع عن السُلطان.
طوال الرواية، يتصرف أورهان بشكلٍ حقير، ولا تتحسن الأمور مع ظهور الغجر وشيلا (الذين يجسدون كل العُنصرية والأفكار المُسبقة والكليشهات والصور النمطية وقلة الإبداع العامة في الرواية)، حيث أنّه يشتهي شيلا طوال الوقت، ويكرهها طوال الوقت لأنها لا تتصرف كما يتوقع من النساء أن يتصرفن، ولا “تولول كالنساء”، أو تنظر له بخفر وتقول: “أمان يا للّي أمان”، السلوك الذي يتوقعه التُركي النمطي. حتى يفيض الكيل بالقارئ من هذا المحقق الخبيث الذي جمع الدناءة والحقارة والتسلط والقسوة والجُبن وقلة الكفاءة، ويرغب في أن يتخوزق.
يُحمد للرواية أن أورهان أفندي قد تخوزق. الأمر الذي يستحقه كُلية، لكن هذا يُفرغ الرواية من أي معنى. لقد كان القارئ طوال الرواية يصحب شخصية خبيثة، وقد تخوزقت. ماذا يُمكِن أن يكون هدف الرواية؟ السُلطان محمد لا يُجيد انتقاء مبعوثيه؟ أسطورة دراكيولا تنتصر على السُلطان؟ المسيحية الوثنية تتغلب على الإسلام؟ كان هناك كلبٌ وتخوزق؟
بالتأكيد، تحفل الرواية بكل ما يُمكِن تصوره من ميزوجينية تتوج بمشهد تعذيب شيلا وتشويهها وقتلها - لماذا لا تشوه المرأة الوحيدة في الرواية إذا كان بإمكانك أن تشوهها؟ - وحتى حينذاك لا يُعفينا أورهان أفندي من تعليقاته الغبية. وهناك الكشف المطول عن المؤامرة بكاملها عن طريق الأخوين المجنونين (ويأتيان مُجهزين بكامل عُقد النقص وخيانة الأهل والتلذذ الشهواني بالتعذيب). الأخوين الذين كانا يعملان في القلعة، لأنّه لا توجد شخصيات أخرى يُمكِن أن تشترك في المؤامرة، ولأن الروايات الحديثة كلها تحتوي على twists.
الخادمان كانا هما الأخوين، سُربرايز! في الروايات الإنكليزية ثمة كليشيه يقول: the butler did it. أي كبير الخدم من فعلها، ويبدو أن هذا كان تنويعاً على ثيمة كبير الخدم فعلها.
لا ننسى أن الرواية تأتي مجهزة، كذلك، بالحديث عن التشريح والتجارب الغامضة التي يُجريها يهودي من غرناطة في حلب (هذا الجزء يُذكرني بقصة لعدي الحربش لكنني نسيت تفاصيلها).
لو كانت الرواية جيدة، واعتنت بتقديم شخصيات جيدة ومتنوعة عوض الإسراف في تفاصيل التقتيل والتقطيع والتعذيب، لكان من المُمكِن الحديث عن ثيمات جيدة فيها، مثل الأعمال غير المُنجزة في حياة أورهان أفندي: الحج/الطب/دحض أسطورة دراكيولا. لكن، لا شيء في الرواية يدعم هذه المُلاحظة، إذ أن كُل الشخصيات مجرد مجموعة من الكليشهات أُعطيت بعض الأسماء.