قليلة هي تلك الكتب التي ما أن أغلقها حتى تشتاقها النفس كأنها صديق حان وقت رحيله فترافقه الى المطار لتودعه وتشتاق له منذ اللحظة التي يخبرك فيها عن الرحيل. حاولت أن أطيل المسير مع خواطر ابن الجوزي لكن هيهات هيهات فكل طريق له نهاية وفي كل اجتماع لا بد من ساعة الفراق وما كل ما يتمنى المرء يدركه.
أحمد الله أن وفق ابن الجوزي لكتابة هذا الصيد الرائع من جميل اللآلئ في تربية النفوس وتزكيتها والإقبال على الله والتزهد في هذه الدنيا الفانية بقدَرَ فلكل مقام مقال والمؤمن الكيس الفطن يعلم كيف يوازن بين طلب الدنيا والآخرة فيجمع بين العلم والعمل بين التزهد والكسب بين اشباع رغبات النفس والصوم وغيرها من طيب الكلام والحث على تطهير هذه النفس التي نحملها بين جنباتنا والتي ما يفتأ يخاطبها بالزجر حيناً وبالتلطف أحياناً أخرى ليربيها ويعلمها ويعلمنا بالمنطق والقول الحسن ما ترتاح له العقول قبل القلوب.
وأذكّر نفسي بدايةً أن هذه الدعوة لتزكية النفوس والتزهد ليست حالة عابرة تنتهي بانتهاء كلمات هذه الكتاب نلجأ اليها فقط لشعورنا بالتقصير ورغبة عابرة لتطهير أنفسنا من وخز الضمير بل هي منهج حياة قدوتنتا فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعه بإحسان الى يوم الدين.
الكثير الكثير مما أعجز عن قوله الآن الا أن هناك عبارة حفرت في عقلي ونقشت بحروف لا تمحى كانت السبب أساساً في قراءة الكتاب حيث كان يراودني دائماً أنني دائماً أتساءل وأبحث وأحياناً أصل بحمدٍ من الله وأحياناً كثيرة أصل الى مرحلة أعجز فيها عن المعرفة وادراك الحكمة من وراء ما يجري في هذه الدنيا من أحداث فتثور النفس لشعورها بالعجز وقلة الحيلة بل يصل في أحايين كثيرة الى تعنيفها وزجرها عن محاولة الفهم لقصورها عن الادراك ليجيب ابن الجوزي بهذا الجواب الشافي أن لكل جارحة من الجوارح تكليف وتكليف العقل التفكر والتسليم عند العجز هو أداء لواجب التكليف وأسمحوا لي بالإطالة في اقتباس هذه الخاطرة التي نزلت كلماتها علي برداً وسلاماً.
((تفكرت يوماً في التكليف، فرأيته ينقسم إلى سهل، و صعب.
فأما السهل فهو أعمال الجوارح، إلا أن منه ما هو أصعب من بعض، فالوضوء والصلاةأسهل من الصوم، والصوم ربما كان عند قوم أسهل من الزكاة.
وأما الصعب في تفاوت، فبعضها أصعب من بعض. فمن المستصعب، النظر، والاستدلال، الموصلان إلى معرفة الخالق. فهذا صعب عند من غلبت عليه أمور الحس، سهل عند أهل العقل. ومن المستصعب غلبة الهوى، و قهر النفوس، و كف أكف الطباع عن التصرف فيما يؤثره.
وكل هذا يسهل على العاقل النظر في ثوابه، ورجاء عاقبته، وإن شق عاجلاً. وإنما أصعب التكاليف وأعجبها: أنه قد ثبتت حكمة الخالق عند العقل، ثم نراه يفقر المتشاغل بالعلم، المقبل على العبادة، حتى يعضه الفقر بناجذيه، في ذل للجاهل في طلب القوت. ويغنى الفاسق مع الجهل، حتى تفيض الدنيا عليه. ثم نراه ينشىء الأجسام ثم ينقض بناء الشباب في مبدأ أمره، وعند استكمال بنائه، فإذابه قد عاد هشيماً. ثم نراه يؤلم الأطفال، حتى يرحمهم كل طبع. ثم يقال له : إياك أن تشك في أنه أرحم الراحمين. ثم يسمع بإرسال موسى إلى فرعون، و يقال له: اعتقد أن الله تعالى أضل فرعون، واعلم أنه ما كان لآدم بد من أكل الشجرة و قد وبخ بقوله:
{وعصى آدم ربه}. وفي مثل هذه الأشياء تحير خلق، حتى خرجوا إلى الكفر والتكذيب. ولو فتشوا على سر هذه الأشياء، لعلموا أن تسليم هذه الأمور، تكليف العقل ليذعن! وهذا أصل، إذا فهم، حصل منه السلامة والتسليم. نسأل الله عز وجل أن يكشف لنا الغوامض، التي حيرت من ضل، أنه قريب مجيب. ))
جزا الله ابن الجوزي عنا خير الجزاء وتجاوز عن سيئاته ونفعنا الله بما أوتيه من علم بعمل بإذن الله.
------
النسخة التي قرأتها محققة تحقيقاً وافياً فيها بيان لبعض الأحاديث الضعيفة التي استشهد بها لذلك أنصح بقراءة النسخ المحققة دائماً.