رواية عبقرية تشي بموهبة متفجرة لكاتبها الشاب -آنذاك- جمال الغيطاني، الذي كتب هذه التحفة الأدبية وهو في الخامسة والعشرين من عمره -عام 1970- ما يدفع للتساؤل كيف لم يصبح صاحبها أحد عمالقة الأدب العربي رغم بدايته الكبيرة جدا؟!
إستيعاب تام للتاريخ، لغة شديدة التميز، نسج خيوط الحكاية ببراعة واقتدار، رسم بديع للشخصيات بأدق تفاصيلها وأفكارها وتحولاتها؛ وخاصة: زكريا كبير البصاصين والشيخ ريحان وسعيد الجهيني وعمرو بن العدوى، وإن كان من مآخذي القليلة على الرواية أن شخصية الزيني بركات رغم محوريتها لم تحظ بنفس هذه العناية والتفصيل، فكانت صورته عبارة عن مجموع آراء الآخرين فيه مع اختلاف الزاوية التي ينظر بها كل منهم، وهو أسلوب جيد وإن كان يعيبه عدم التعمق في نفسية الزيني بشكل كافي.
إسقاط على الحاضر -الذي لازال حاضرا! - دون أي افتعال أو إبتذال، تكثيف للأحداث جعل الرواية تخلو من ذرة ملل واحدة -هذه الرواية كان من الممكن مضاعفة عدد صفحاتها دون أي مط- وأوضح مثال على ذلك المشهد الخاص باكتشاف زكريا بن راضي لخيانة الجارية وسيلة وانتقامه منها وتأثيره عليه، هذا المشهد الذي لخصه الغيطاني في أقل من صفحة كان يمكن إفراد فصل كامل له دون أي مبالغة، والغريب أن الغيطاني نجح في توصيل مشاعر الخيانة والألم والإنتقام والوحشية والندم في هذه النصف صفحة بمنتهى التمكن والاقتدار.
أكثر ما أعجبني:
الوصف الممتاز لشخصية زكريا بن راضي كبير البصاصين وطريقة تفكيره ونظرياته الشيطانية وتفننه في وسائل التعذيب المبتكرة، وأساليبه الجهنمية في السيطرة على العامة وتوجيههم حيث يشاء-كما في واقعة الفوانيس مثلا- وعلى الأمراء من خلال إشعال الفتن بينهم لتبقى السلطة مركزة في يده.
وصف دهاء الزيني وكيف احتال على الجميع حتى أقنعهم بزهده وورعه وكيفية سحبه للنفوذ من زكريا والألاعيب السياسية على أعلى مستوى بينهم.
وصف نفسية الطالب الأزهري البصاص عمرو بن العدوى وصراعات الداخلية ومبرراته لمهمته الدنيئة.
وصف شخصية الشيخ ريحان وتمحكه في السلطة وإنسحاقه أمامها.
ويأتي ثاني أفضل وصف لشخصية في الرواية -بعد زكريا بن راضي- من نصيب سعيد الجهيني، الطالب الأزهري النقي تلميذ الشيخ ريحان المخدوع فيه والمعذب بحب إبنته سماح في صمت، المتعشم خيرا في الزيني قبل أن يكتشف حقيقته تدريجيا بفطرته السوية، الذي ترى فيه دولة البصاصين تهديدا لها فتعمل على تحطيمه بكل السبل، لنشهد إستسلامه المرير لها بعد مقاومة مستميتة ذكرتني بنهاية ونستون في رائعة أورويل 1984.
ويبقى مأخذي الرئيسي على هذه الرواية البديعة هو نهايتها المبتسرة التي أرى أن الغيطاني لم يعطها حقها للأسف، وخاصة ما يتعلق بنهاية الزيني الغامضة.
تقييمي المضبوط للرواية هو أربع نجوم ونصف، ولولا المآخذ القليلة التي ذكرتها لاستحقت الخمس نجوم بجدارة.