" ليسَ بعقلك ولا حتّى بقلبك ولا بنفسك ، وإنما عندما تنسى ذلك كله ، حينَ تريدُ ألّا تريد ، فترى نفسك ، وترى النَّورَ فى قلبِ الظلام ، إذن فما هى العلامة ؟ ، فقال : أن ترى النور فى قلب الظلام "
أرهقتنى هذه الرواية كثيراً ، هذه المشاعر المتلخبطة التى نقلها لكَ الكاتب ، لا تدرى هل هى الحالة ذاتها التى كانت تسيطر على الكاتب عندما كان يكتبها ، أم أنها حالة الشخصيات التى مع مرور الصفحات شعرتَ أنك تعرفهم وبالتالى نقلوا لك مشاعرهم وحالتهم ، بداية بحالة الباشكاتب توفيق ، وسالم ، وشعبان ، وفوزية ، ولبنى ، مروراً بالشخصيات الثانوية التى لم تخلو أيضاً من تلك الحالات المضطربة مثل فرّاج زوج فوزية والدكتور المتعجرف شوكت وصفاء ، نهاية بالشخصية العظيمة والتى كانت مصدر إلهام كبير للباشكاتب ، والتى كانت تحرّك دفةَ الأحداث ، من خلال الحكم التى كان ينثرها على صفحات الرواية ،وكان الهدفُ من ذلك كلَّه هو الوصول إلى نقطة النّور .
فى البداية استطاع الكاتب من خلال البيت الرابض فى حىِّ السيدة زينب ، والذى بناه السعدى وورثه ابنه توفيق – الباشكاتب – والذى كان يقطنُ معه فيه ، ثلاثة غيره وهم [ ابنه شعبان – حفيده سالم – حفيقدته فوزية ] .
ومن هنا بدأ الكاتب ينسجُ خيوط روايته ، ويخطُّ بقلمه لكل منهم عالمه الخاص ، فشخصية الباشكاتب ، الشخصية التى تحاولُ الهروب من الماضى وتتمنى لو تمحيه من الذاكرة ، لكنه لم يستطيع ، لأن من منّا يستطيعُ أن يهربَ من ماضيه ، وحتى لو استطاع ، سيظهر له الماضى حتماً كشبحٍ متخفى قابع فى ذاكرته ، سرعان ما تظهرُ بوادره عندما يظهرُ ما ينكأ هذا الجرح القديم ، حاول الباشكاتب كثيراً أن يهرب لكنه لم يستطع ، ونا ظهر له الشيخ " أبو خطوة " الذى استطاع بحكمته ان ينتشله ، ويمدُّ له يد العون ، وينقذه من بحرِ ماصيه ، الذى كاد أن يغرقه ، وهنا نمت العزيمة بداخله أنه حتماً ولابد أن يصلَ إلى نقطةٍ النّور بداخله ، لا يهمّه ، متى يصل ، المهمُّ أن يصلَ .
أما شعبان فهو إنسان لا يحبُّ الناس ، فشل منذو صغره فى التعليم ، رغمَ محاولات والده المستميتة فى تعليمه ، إلا أنه فشل فى التعليم ، كما فشلَ فى علاقاته الاجتماعية .
أما شخصية سالم ، فأعجبت بها كثيراً فهو الشخصية الصامتة المنطوية ، هو الشخص المحبب إلى جده ، وكذلك جده محبب إليه ، وثقت روابط العلاقة بينهما منذو أن كان يصحب سالم من صغره لمسجد السيدة ، ويجلسا سوياً على السطح فى ليالى الصيف ، وعصارى الشتاء ، ومما زادَ تعلقه بسالم ، ثناء الشيخ أبو خطوة عليه ، رغم أنه لم يره ، ثم تعلق سالم بلبنى ، وقد بدأ الحبُّ يتسربُ إلى خلايا روحه ، بعد أن عرفها أدركَ ، للحبِّ لوناً وطعماً ، آخر ، فحبه للبنى ، لم يكن مثل حبه جده أو والده وأخته ، هو حبٌّ من نوع خاص هو ذلك الحب ، الذى تسكنُ فيه النفسُ ، ويقعُ فيه القلب أسيراً فيمن يحب .
أما الشيخ أبو خطوة ، الغائب الحاضر فى الرواية ، الذى تلمستُ حكمةَ الجدِّ فيه ، ولم لا ، فالجدُّ كان تلميذاً للشيخ أبو خطوة ، ورغم ، أن الشيخ غاب فى منتصف الأحداث ، إلا أن الصفحات أبت إلا أن تذكره بينا بين الحين والآخر على لسان التلميذ الوفى لمعلمه – الجد - .
كل هذه الشخصيات عشتَ معها لحظة بلحظة ، فمرة تكون مع الجد وهو فى قمة فرحه ونشوته على سطح البيت فى ليالى المولد النبوى ، والمنشد يترنم بأبيت البرده :
يارب بالمصطفى بلغ مقاصدنا
واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
وفجأة تسطيرُ عليك حالة سالم تشعر به وبخفقان قلبه عندما يرى لبنى ، وتسمع سرعات قلبه أو إن شئت فقل خفقان قلبك أنت ، ثم تنقل إليك لبنى حالة الخوف التى كانت تسيطرُ عليها دائماً ، لا تعرفُ مما تخاف ، لكنها تخاف ، تقول أنها ولدت بهذا الخوف ، حتّ بعد أن سافرت إلى روما ، لم تقدر أن تزيح الخوف عن قلبها ، كأنه صار منها وصارت منه ..
الشئ الذى جمع الكل ، هو " الحب " ، الحب الذى قالت عنه فوزية " الحب الحقيقي التقاء روحين والأرواح لا تتنافس في الجمال ولا في الذكاء لأن كل الأرواح جميلة وذكية "
كأن القائل أراد أن يقول أن الحبَّ هو الوسيلةَ الأنصع فى البقاء على قيد الحياة ، لم يكن الوسيلة الأبرأ لكنه كان الوسيلة الوحيدة ، لان الموتَ فيمن تحب خلاص من الموت نفسه ، الموت وهو يتخفى تحت بردة الحب ، والحب وهو يتبدى تحت صاعقة الموت ، وكل منهم يحاول أن يصرعَ الآخر ، لكن الحب انتصر فى النهاية ، وكان طوق النجاة لقلوب أنهكتها الهزائم المتلاحقة ، وكادت أن تهوى فى جبٍّ سحيقٍ ..
الحبُّ كان الطوقُ النجاة لكل من " سالم ولبنى " كما كان له ولجده من قبل ..
" لحظة واحدة تبعتُ فيها الأرواح الميتة لتلقى كم قال جدك "
وبالفعل هذه الأرواح التى تشتت كثيراً ، وأنهكت كثيراً ، كان لها أن تلتقى ، كان كل منهم حلاص الآخر ، فبعد أن كانت حياتهما بلا معنى ، سالم حاول أن ينسى لبنى لكنه لم يستطع ، ولبنى حاولت أن تنساه لكنها لم تستطيع ، والجدُّ كان المعين الوحيد لسالم ، خصوصاً بعد أن لازمه سالم فى فترة علاجه الأخيرة ، بعد أن شارف الجد على النهاية ، هذه الأرواح عزفت أوتاراً وألحاناً من الحبِّ والجمال على صفحة القلب ، فصنعت لحناً عذباً شجياً ، ترددت أصداءه فى النفسه ، فكان لها من الجمال ما كان ..
" حدثنى ماذا يقول جدك عن الأرواح ؟
يقول كل الأرواح جميلة ، وكلها طيبة
وهل قال لك يا سالم ، ما الذى ينقذ الأرواح ؟
قال : الحبُّ "