قرأت كتبا كثيرة في أدب السجون ...و في كل مرة أحس كأنني أقرا لأول مرة...
ما يؤلم حقيقة هو أن ما نقرأه ونحن على الأريكة بينما نحتسي فنجانا من القهوة هو لمحة من تاريخ حقيقي واقعي.. عاشه أحدهم تحت وطأة الظلم والقهر أولا ثم تحت وطأة السجن وعتمته...
تلك العتمة.. التي لو لم يكن في السجن إلا هي لكفت أن تجعل السجن جحيما لا يطاق...
كم تمنيت لو استطعت أن أقرأ هذا الكتاب بلغته الأصلية لشدة ما أثر أسلوب الكاتب في نفسي...
تلك العتمة الباهرة....
العتمة تكون حالكة...شديدة السواد... مظلمة.... مدلهمّة... لكنها إذا اشتد سوادها وأطبقت على السجين أضاءت.... أضاءت له طريقا آخر.. أو لنقل أنها تعيد تعريف النور له.. ليجد الضياء في أشكال أخرى غير التي نعتادها نحن في حياتنا...
العتمة الباهرة.. أو العتمة التي تضيء.... تلك العتمة التي ينبثق منها النور... نور البصيرة لا البصر... نور الحق والإيمان.... نور اليقين الذي لا يخالطه الشك....
بالرغم من أن هذا الكتاب أقل دموية من بعض كتب أدب السجون التي قرأتها سابقا – خصوصا عندما تكون السجون في سوريا- إلا أن هذا الكتاب متميز جدا في أسلوبه ودقة وصفه .. فالكاتب يصف شعور السجين بطريقة تجعلك تدخل في عقله وتحس بإحساسه....
إن الجسم البشري عجيب جدا في تركيبه وقدرة تحمله وفي تصرفه عند المحن والشدائد... وأعجب منه تلك النفس التي تمد الجسد بالقوة حتى يتمكن من الحياة في تلك الظروف الجديدة....
في السجن تقلب كثير من الموازين.... فحياة السجن غير اعتيادية.. وتلزمه أيضا موازين جديدة غير اعتيادية حتى يتمكن السجين من البقاء على قيد الحياة أو على قيد العقل والعافية...
يقول الطاهر بن جلون: (( إن أكثر الأمور اعتيادية تفاهة, تصبح في المحن العصيبة غير اعتيادية, لا بل أكثر ما يرغب فيه من أمور الدنيا)).كم هي مؤلمة هذه العبارة... يصبح السجين طفلا يتعلق بأي شيء قد يخرجه من وحدته وعزلته... أي شيء.. صوت عصفور.. رفرفة حمامة بالقرب من الزنزانة... حتى إن دفن الموتى في فناء السجن يصبح مصدرا لتلقي بعض الضوء الحقيقي وقدر من أشعة الشمس ...
في السجن تنقلب الأحوال... فيصبح العقل والجدية جنونا... كما تصبح بعض أشكال الجنون ضرورة لا بد منها... فالخيالات والأحلام والأشخاص والأطياف والفكرة والحقيقة كل هذا يختلط بعضه ببعض ويصبح من الصعب التفريق بين أمر وآخر منها...
إن الذين عاشوا في السجن يصبح لديهم نوع آخر من النضوج لا يمتلكه الأحرار... نضوج في الفكر والجسم والروح معا...
وثمانية عشرة سنة من السجن كفيلة بأن تبني إنسانا آخر.. حتى إذا خرج وأصبح حرا وجد صعوبة في التأقلم مع العالم الخارجي ...
هذه القصة ليست غريبة على أنظمتنا التي حكمت شعوبها بالنار والحديد وكممت الأفواه وسدت الآفاق أمام الشباب.. وبنت للناس عالما أخرقا من الزيف والباطل....لكن للأسف أنه لم يعد لهذه القصص التأثير المتوقع على نفوسنا التي أصابها العفن الإلكتروني والبلادة المعلوماتية...
تلك العتمة الباهرة... من أجود الروايات التي تقص أدب السجون.. والتي أنصح الجميع بقراءتها...