ليس في هذه المدينة شيء يسمى الأصل يا بوي. أصلك وقتك. فالناس هنا لا يهمها معرفة ابن من أنت و لا من أي أصول عريقة تنحدر. إنما يهمها ماذا أنت الآن. ماذا تملك. ماذا تلبس. ماذا تأكل. كيف تسكن. كيف تركب .. إلخ.
و أنا بحكم دراستي في الشارع و في السجن و في العراء. عرفت جيدا كيف يمكن أن يحترمك الناس يشيلون الأرض من تحتك على رءوسهم. سأتقمش كعمدة أمريكا نفسه. سأعطي البقشيش كلما تيسر. سأعطف على الناس. سأضع على لساني كل طيب من القول.
بما أن هذا الجزء هو نهاية رحلة صعود أبو ضب فقد جاء الكلام بالمفتشر و بلا مواربة و لا استعارة مما أخل بالجو الروائي نفسه. فشخصية السادات و أخيه و زاهي حواس و عبود الزمر و خالد الإسلامبولي و محمد عبدالسلام و ناجح ابراهيم و غيرهم من الشخصيات العامة ظهرت بأسمائها و بمنتهى الوضوح كما طغى السرد و الخطابة على الجزء الأكبر من الرواية و جاءت تنبؤات الشيخة سعادة و شرحها للتاروت و كأنها دروس من كتاب التاريخ للصف الثاني المتوسط. كل هذا جعل من هذا الجزء أقل الأجزاء إثارة و أضعفها رواية و أهونها شأنا بين الثلاثية و كأن الثلاثية بدأت بالهرم الأكبر فالأوسط ثم الأصغر. على كل حال فقد بقيت الثلاثية شامخة تماما كالأهرامات إن نظرت إليها مجتمعة فستجد نفس اللذة و نفس الرهبة و إن استأثر الهرم الأكبر بالشهرة و المجد.
الحكم و السياسة هي أربح تجارة في مصر. و سرقة مشروعة غير أنها تحتاج لكلام و شعارات و دعايات و أونطه زائدة. كنا بالأمس لصوصا صغارا يسرقون الأفراد في جنح الظلام سرقات صغيرة. أما الأن فقد انضممنا إلى صف الكبار لنسرق شعبا بأكمله في وضح النهار تحت حماية قانونية و بموافقة المعتدى عليهم.
السياسة ضد الأمانة على خط مستقيم. ضد الشرف. ضد الأخلاق. ضد المبادئ. إنها تستخدم تلك الكلمات فحسب لتحكم باسمها. يتذرع السياسي بالأمانة ليصنع ستارا سميكا يخونها من ورائه. يرفع راية الشرف لكي تظلله و هو يفقد الشرف في كل لحظة. يتشدق بالأخلاق و المبادئ كحلة أنيقة يرتديها ليعوض بها غياب الأخلاق و المبادئ من نفسه.
شعبنا يا صاحبي طيب و في حاله و لا يهمه من الذي يحكمه لأنه في النهاية يفعل ما يشاء و الحكومة هي الأخرى تفعل ما تريد. في مصر من يركب لا ينزل أبدا إلا إذا مات هو أو نفق البعير من تحته.
أيقنت أن شخصية حسن ولد أبي ضب القديم. الحرامي النتن رد السجون. قد انمحت. و حل محلها لص كبير واعر. لص شرعي يحميه الشرع يستره القانون يعطيه كل يوم ما يسرقه. عجبت من تصاريف هذه الدنيا العجيبة الغريبة بأوضاعها المقلوبة. لكنني فرحت مع ذلك يا خال. و قلت لنفسي: مالي أنا؟ هل أنا المسئول عنها؟ إن اسمها دنيا. يعني من الدناءة. و لا يمكن أن تكون الدنيا دنيئة و الزمن خوّان كما يقول المثل الشائع و أكون أنا من دون الخلق نبيلا أصيلا. ألسنا نحن أولادها و هي أمنا الرءوم؟ دناءة بدناءة فالشاطر هو الفائز أما الخاسر فلا عذر له. و لا عزاء للشرفاء التعساء الواهمين يا خال.
و الختام للشاعر مصطفى إبراهيم:
بني هذا الوطن و بنوه
ماعدش باقيلكوا شيء تبكوه
إذا كان الميزان مقلوب
فيبقى العدل حقه الدم
و لو منفعش حدف الطوب
فتبقى البندقيه أهم
على هذا الوطن مكتوب
لا يؤخذ عن طريق الفم
يا إما تشمروا الإكمام عشان تاخدوه
يإما توطوا على قدام عشان تاخدوه
بني هذا الوطن و بنوه
و هذا هو نهاية ما وقفنا عليه من سيرة أبي ضب في الجزء الثالث من ثلاثية الأمالي بعد ما قرأت الجزء الأول أولنا ولد و الجزء الثاني و ثانينا الكومي