أن تقرأ لنجيب محففوظ فهذا معناه ، أنك ستتعرض حتمًا لصدمة مزلزلة نتيجة عدم درايتك للواقع الذي تعيش فيه ، لأنه دائمًا يقول من خلال رواياته أنه كان وسيظل الوحيد الذي استطاع أن يقرأ الواقع ويشفه على ورق رواياته، فلا تخرج الرواية المحبرة بقلمه، رواية بالمعنى الضيق، بل إنها تخرج ملحمة إجتماعية ، يكون هو بطلها الأول والأخير .
في الرواية " نجيب " يطرح سؤالين : أي بداية ؟ ، وأي نهاية ؟ ، وتقريبًا هما ذاتا السؤالان اللذان يتنبادران إلى ذهنك عندما تقرأ العنوان ، لكنك ما إن تشرع في القراءة وتبدأ الأحداث في التسرب، تبدأ عقدات الغموض في التفكك واحدة بعد الأخرى ، وتصل إلى الإجابة الأولى " أن البداية هي الموت " ، وهنا يتساءل نجيب " ما هو الموت " ، أحقًا من الممكن أن يموت الإنسان وهو يأكل ويشرب ويضحك، هكذا دون مقدمات ، يا له من شئ مرعب ومحير في ذات الوقت ، بشكل يجعلك تقف حياله محتجًا ثائرًا وخائفًا يائسًا .
تبدأ الرواية بخطي واحد وهو موت الأب،ليرحل ويخلف وراءة مأساة الفقد والحرمان وفي نفس الوقت يتركهم يتركهم للفقر يلتهمهم دون رحمة . " الأم " تحاول أن تتدارك الأزمة بصرامتها المعهودة، " حسن " الابن الأكبر لا يكاد يحس بهول المصيبة التي وقعت عليهم، وبدل أن يساعدهم تمادى في إنحرافه أكثر " " حسين ، حسنين " ،هما أكثر اثنين زلزلهما الحدث ، يأخذا من وسط التلاميذ من فصولهم ويعرفا فجأة أن أباهم مات ، وعليهم أن يستقبلوا الحياة الجديدة دون جزع أو تهاون، عليهم أن يقبلوا بما لم يتخيلوا أن يقبلوه يومًا، والأهم أن عليهم أن يتقبلوا الفقر المدقع ويسلما له أنفسهما ينحل عظامهم دون رحمة ، أما " نفسية " فمأساتها أشد، تلك التي تؤكد لك بحكايتها آلاف الحكايات التي تحدث اليوم ، وهو أن الكثير في بعض الأحيان عليه أن يتنازل عن أشرف ما يملك كي يعيش، والأهم من ذلك كله ممنوع عليه التشكي ومحرم عليه التذمر ، فمن أجل أن تستحق الدنيا والحياة عليك أن تتتلظي بنارها ، بل أن تكون طعمًا لتلك النيران .
الرواية جعلتني أؤمن على كلام " حسنين" شعرت أن منطقه في الأغلب ربما يكون أقرب إلى الصواب، وتبادرت الأسئلة إلى ذهني، هللو ترك الوالد قبل رحيله لهم ما يدفع به عنهم غائلة الفقر ، هل كان من الممكن أن تتغير حياة الأسرة ، هل كان من الممكن أن يكف " حسن " عن حياة الصعلكة والتشرد؟ ، هل كان من الممكن أن لا تتنازل " نفيسة " عن أعز ما تملك ، هل كان من الممكن أن يكمل " حسين " تعليمه العالي مثل " حسنين " الذي كشفت له الحياة عن ثغرها إلى حد ما ؟ ، الأجابة قطعًا " نعم " .
وهذا يؤكد على منطقية الحوار الذي دار بين حسين وحسنين :
-يجب أن نكون أغنياء
- وإذا لم يكن هذا ؟
- فعلينا جميعًا أن نكون فقراء
- وإذا لم يكن هذا ؟
- إذن نقتل ونثور ونسرق
- هذا ما نفعله منذ آلاف السنين
- يعز علي أن أتصور أن تمضي حياتنا في عناء وقذارة إلى الموت
الحقية أن الرواية أثارت بداخلي الحنق والغضب،على تلك الفوارق الطبقية التي نعاني منها من قديم الأزل ، والتي تسحق بداخلها آلاف الأرواح ، وتسف من أحلام الناس الذين يتشبثون بأهداب أمل كي يشعروا أنهم لا زالوا على قيد الحياة ، وهنا أتذكر مقولة " لإدوارد غاليانو " يقول فيها : لا أريد مجرد البقاء حيًّا ، أريد أن أعيش " ، هكذا ببساطة هو حلم المعذبون في الأرض، الذين لا يعيشون إلا على أمل البقاء فحسب .
عندما يصل بك " نجيب " إلى ذروة الحديث تجده مرة واحدة يقول لك " استعد .. أنت على وشك النهاية " ، تؤمن بالفعل على كلامه، أنه لابد من نهاية إلى هذا العذاب وهذا الألم، ليس عدلاً أن تمضي الحياة كلها على نفس الوتيرة دون تغير لو حتى طارئ يغير من نطيتها المؤلمة ، لكن أحيانًا النهايات المؤلمة تدفعك إلى ندمك في استعجالها يومًا ، وهذا بالضبط ما فعله " نجيب " هنا ، لكنه لابد وأن يجيب على النصف الثاني من السؤال " أي نهاية " ، لبيفاجئك بالإجابة ، بأن النهاية مثل البداية الموت ، وكل ما عانيته وسط هذين السؤالين ما هي إلا تفاصيل صغيرة جدًا .
إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة ، مع هذا يقال عنا إننا شعب راضٍ ، هذا لعمري منتهى البؤس، أجل غاية البؤس أن تكون بائسًا ، هو الموت نفسه، لولا الفقر لواصلت تعليمي ، هل في ذلك شك ؟ ، الجاه والحظ والمهن المحترمة في بلدنا وراثية ، لست حاقدًا ولكني حزين ، حزين على نفسي وعلى الملايين، لست فردًا ولكنني أمة مظلومة، وهذا يولد فيّ روح المقاومة ويعزيني بنوع من السعادة لا أدري كيف أسميه .
الموت ، الحزن ، الألم ، الفقر ، الشقاء ، علينا أن نقتصد في معيشتنا كي نعيش ، علينا أن نقتصد في أحلامنا أيَا كي نعيش ، البكالوريا ، الإمتحان ، أمل الجامعة الزائف، الشرف ، الجاه والسلطة، الخوف، الحب العبثي ، لا أريد أن يمسك سوء بسببي ، أمر ربنا ، أمر الشيطان ، النيل ، ليكن ، وإذا ساورك الخوف ، كلا ، إن ما ورائي في الحياة أفظع من الموت ، أأنت مستعدة، لماذا تغيب الملازم حسنين ، أين أمي ؟ ، أين حسن ؟ ، أين حسين ، البداية موت ، تفاصيل مغلفة بالبؤس والعذاب ، النهاية موت .