اقتباسات منيرة مهدي

عجلة الحياة لا تستأذن أحدًا، إما أن تسير معها أو تبتعد عن طريقها. المجابهة تعني الموت طحنًا تحت عجلاتها، وهذا ما فهمه خالي متأخرًا ومعه الكثير

حتى سكان السعودية أنفسهم تشربوا التغيير والانفتاح ولكن بدرجات متفاوتة، وبعضهم تحصن بالحذر وترك مهمة الخطوات الأولى لغيره قبل أن يخطوها بدوره لاحقًا، فزاحمت نساؤهم - المتحفظات في السابق - باقي النساء على مدارس تعليم قيادة السيارة بعد أشهر قليلة

وكانت النتيجة مدهشة للمراقب وللمتحفز وللظان ظن السوء. سارت الحياة بكل انسيابية ولم يظهر أن لضوء الشمس قياسًا مختلفًا أو إشراقًا مختلفًا. ولم يظهر أن الكون يهتم بتغييرات حدثت في بقعة محددة من الكرة الأرضية تسمى «السعودية».

تنفسنا هواءً عجيبًا، يمتزج بحرية حلوة المذاق داخل أفواه ذاقت المرارة لأربعة عقود. كل المخاوف المزعومة خلف سياسية القهر والمنع والكبت، تهاوت أمام النوافذ المشرعة للهواء الحر، الحر في انبعاثه والحر في احتباسه، وللشمس الساطعة منذ الأزل وحتى الآن.

استردت النساء حقوقهن المشروعة من بين أنياب الصحوة والتشدد، وامتلكن حرية قيادة السيارة واستخراج أوراق رسمية لهنّ ولأطفالهنّ، ثم أسقطت الدولة نظام الولاية والوصاية على النساء البالغات، وبقوة سلطة الدولة تم إنفاذ القوانين بصرامة ومعاقبة كل عابث يتعدى عليها.

وتحت سلطة القانون تم إخضاع الأغلبية لسلطة المصير المشترك، وشذت الأقلية المعارضة لدوافع دينية أو سياسية، فكان صوتهم خافتًا وغير مسموع بعد قيام الدولة باعتقال كل صوت يعلو بالتحريض أو التشكيك أو التخوين.

ليست أمي وحدها من استسلم للواقع وحاولت التأقلم معه حتى لو لم تستسيغه، القوانين الصارمة في سبيل الحرية الفردية كانت فوق الجميع

هل تتغير العقليات بتغيّر الفتاوى؟ لا أجد وصفًا للاستسلام أبلغ من خنوع أمي للواقع الذي عاشته ولم تختَره، ولكنها كانت طرفًا مؤثرًا فيه في بدايته، ثم سحبت الحياة بساطها من تحت قدميها وتركتها ترمي أسلحة المقاومة الواحدة تلو الأخرى

‫ هل ضيَّقوا علينا الخناق وأغلقوا كل منافذ التصالح مع بعض وكفّروا بعضهم واستأثر كل فريق بالجنة لطائفته، ثم تفننوا في تحريم بعضنا على بعض!

‫ التزواج بين المسلمين والنصارى حلال وفق آيات قرآنية، والتزاوج بين المذاهب الإسلامية حرام وفق فتاوى الشيوخ والمعممين.

لو كان والدي حيًا لخرج من قوقعته المغلقة في دور بيتنا الثالث إلى الشارع وتنفس الهواء بعمق، ولكنه أدبر عن الرياض وعن الحياة وهو راضٍ عن نفسه.

ليست حياة التشدد هي ما غربت فقط، بل إن شمس أعمارنا غربت معها، لقد سرقوها قبل الغروب. ارتحلوا بها مع الشمس الغاربة ثم حين ضاقت بهم السبل اعتدلوا واعتذروا.

غربت شمس التشدد ولم يتغير مجتمعنا بعد هذا الغروب الإلزامي، هو فقط عاد إلى طبيعته، عاد إلى ركب مجتمعات إنسانية لا تختلف عنه ‏

‫ولا يختلف عنها.

أكان من الضروري أن يحصدوا سنابل القمح من رأس والدي، ويعيثوا تشويهًا في سمعة كل مجدد أو حداثي أو مثقف أو مصلح بحجة مقاومة التجديد والانفتاح!

‫ أكان لزامًا أن ينزف مواليد التسعينيات والثمانينات الميلادية كل هذا الأسى قبل أن تأتي موجة الاعتدال وتطمر مواضع النزف وتوقفها!

الزمن يعيد نفسه ليكافئني نظير صبري عليه وعلى الحياة وعلى أثقالي.

فكل شيء حرام ما لم تثبت إباحته، وكل مباح يحمل بالضرورة شبهة التحريم ويحتاج إلى تدقيق وتمحيص من المُفتين.

ولكني كنتُ أتسكع على عصا سؤالي الفج بأزقة التائهين بين المدن والهجر بلا موطن وبلا انتماء.

لم أجرب فلسفة إلقاء اللوم على أحد حتى أحرر نفسي من خرائط التيه، أنا وعقلي وقلبي على قدر من المسؤولية اتجاه بعضنا ونتقاسم اللوم بيننا سواسية،

هجرة والدي كانت واحة مقطوعة من خريطة الوطن، جزيرة ضائعة وسط المحيط، عقلًا فطريًّا لم يتلوث بتطرف المدن، حبًّا عذريًا للحياة لم يخالطه سوء ظن المحتسبين. وجدت في الهجرة الهروب الذي كنتُ أشتهيه ولا أعرف إليه سبيلًا.