اقتباسات ميسره الدندراوي

رائحة الشاي المعطر بأعواد النعناع: ‫ - بيناجي اللي هو مجذوبله يا حلواني. بيناجي القمر ‫ - مداح القمر يعني ‫ قالها الحلواني ساخرًا بفم مليء بالبقسماط، ثم تناول كوب الشاي الساخن من فوق الصينية، ورشف رشفة كبيرة وهو يتابع: فين الحاجات يا حارس؟

أومال سيف فين؟

‫ - بيعمل شاي.. كل شوية يخش يعمل شاي.. وبعدين يعمل جنزبيل للمجذوب ..لحد ما بطننا نشفت من الشاي.. وفين على ما لقيت صباعين البقسماط دول في جيب الشنطة..

‫ ثم اقترب منه وقضم من البقسماط

السادس عشر من ديسمبر عام ألفين وخمس وثلاثين

‫ غابت الشمس.

‫ وخرج الضوء من السماء مؤقتا، حتى يشرق وجه إياح الفضي في السماء كما يحدث في تلك الأيام.

‫ لكن إياح اليوم لم يكن ظاهرًا في سماء القاهرة.

- لو عايز تخطبني لازم أوافق أنا الأول. ولو إنك مسيحي. يعني ما تجوزليش ‫ صدرت منه ضحكة مكتومة، وخطر بباله انه لم يفكر يومًا في خطبة إيرين، لكنه طرد الخاطرة من رأسه متابعًا: ‫ - لا الموضوع مش متعلق بخطوبة و لا بنسب الموضوع متعلق بمحمد الحارس.

وتذكرت سمر.

‫ تذكرت كيف انهار البناء للقديم، وكيف دفنت منى واغلب الأطفال تحت أكوام الأتربة والأحجار، وكيف وصلت الشرطة وقوات الإنقاذ فاقدة الأمل في العثور على ناجين.

اتسعت ابتسامتها وهي تنتظر أن تسمع تلك الجملة التي لم تتوقف عن اعتبارها العلامة الوحيدة، التي تعلمها بأن هذا الوغد لا زال حيًّا.

‫ - في مشاهدات هتقبضي.. مفيش مشاهدات.. هتشحتي.

مش عايزة حاجة تاني مني يا ريس؟

‫ - لا متشكر.. اتفضلي يا استاذة.. شوفي شغلك.. وسيبك من موضوع الأوميجا والألفا وشغل مدرسين الفيزيا ده.. أنا عايز شغل يزود المشاهدات ويرفع الترافيك.

‫ - شغل يهز الرأي العام ويبلبل المجتمع.

أنتِ ناوية تعملي ايه؟ ‫ نهضت سمر وهي تحمل حقيبتها الصغيرة المكتنزة فوق كتفها: ‫ - ناوية أحوم زي الناموسة الشبعانة ‫ - في الموضوع ده بس. لكن في موضوع تاني عايزك تتعاملي معاه كأنك ناموسة جعانة ورزلة كمان ‫

أنا ماهر الرفاعي. يعني مش بس اللي علمتك الصحافة. لا ده أنا خالك اللي مربيكِ ‫ - ما هو عشان كده أنا ما شوفتش رباية يا ريس ‫ - بنت. احترمي نفسك. وتعاليلي دوغري كده. أنتِ ناوية تعملي ايه؟ ‫

- ايه ده.. ببساطة كده.. من غير ما تجادليني ولا تقرفيني زي عوايدك؟

‫ - أنا قولت المرة دي أبقى شاطرة وأسمع الكلام.

‫ ارتسمت أمارات الغضب على وجهه:

بنت يا سمر

نظر له حارس نظرة هزت كيانه، بينما صوت مصطفى يدوي في رأسه: ‫ - سيف. أنت لسه ما فهمتش. اللي شافه كان … ‫ قطع حارس صوت مصطفى الذي يدوي في عقل سيف متابعًا: ‫ - بداية النهاية يا سيف.

بينما اقترب سيف من حارس وقال هامسًا:

‫ - هو ايه اللي شافه في الصور خلاك قلقان كده ووشك اتغير؟

‫ - شاف اللي كنت ما أتمناش إنه يشوفه!

‫ - أيوة اللي هو ايه يا حارس؟

وهل تفنى الضباع إذا ما تفرقت يا أخي؟ ‫ رفع سيف صوته وهو يقف بينهما: ‫ - ما تكلمونا عربي يا جماعة. أنا مش فاهم حاجة! ‫ نظر المسافر له في حدة، ثم أولاهما ظهره ومشى مستندًا على عصاه نحو السور

أوميجا اللاتيني المحفور بالحرق فوق صدر إحدى الجثث.

‫ بينما خرجت الحروف من بين شفتي حارس، وهي مغموسة في مداد القلق:

‫ - أنت تقصد أنها لم تكن بمفردها!

- بعد اليوم ده بخمسين سنة. فتح لي واحد من كتبه. وحكالي حكاية الدايرة. والمخروط. والانحدار. والإغلاق ‫ - عارف. عارف كل ده. بس الدايرة ليها شروط عشان تتقفل وتبدأ من جديد. ومن ضمن الشروط دي إن القادم من الغرب يكون ساعتها و إلا..

اتبع جملته برشفة أخرى، فربَّتَ حارس على كتف المسافر، وقاده إلى كرسي من البوص، وجلس إلى جواره متناولًا كوب الشاي .

ما تشيلش هم المسميات يا سيف. احنا زينا زيك. كل اللي يفرقنا عنك إننا عشنا اكتر منك شوية ‫ - صعب أوي يا أخ مسافر إن ثلاثين ألف سنة يبقوا شوية. ما تركبش! ‫ ثم اتبع جملته برشفة أخرى، فربَّتَ على كتفه .

شِخْتَ يا خونسو. شِختَ وأصبحت أيامك أقل من سنابل الصيف ‫ ابتسم المسافر من جديد، وقبض على عصاه قائلًا في هدوء: ‫ - منحناك آخر ما احتفظنا به من البئر أيها الأخير ‫ - لم أكن أريد ذلك. كنت أريد الرحيل إلى دار أبي الوزير.

- لا تحاول يا تحوتي. رأسي ليست لك ‫ - إنما أبحث عن ردك الذي تخفيه ‫ ثم ابتسم واضعا كفه فوق كتف خونسو: ‫ - إذن. أسلم لي رأسك وجسدك يا ابن آمون. حتى نرحل ‫ - إلى أين يا سيدي؟

«خونسو قاتل السادة»

‫ الشيطان الذي مضى.

‫ أخرجه صوت الزمجرة العميقة من بئر ذاكرته السحيقة، فلف رأسه النحيل إلى الصخرة العملاقة، التي أنارها وجه إياح الفضي، ليجد مصدر الزمجرة.

‫ صوت الزمجرة يتعالى، يعقبه عواء طويل.