اقتباسات وجيه يعقوب السيد

فقد التحق بوظيفة كاتب بإحدى المحاكم بمدينة طنطا بمصر، وكان عمره أقلَّ من عشرين عامًا، وظل يتنقل من مدينة إلى أخرى، حسبما تقتضيه ظروف العمل، وكان الكتابُ صديقَه الدائمَ والملازمَ له في حِلِّه وتِرحِاله، وقد أكسبه العمل في المحكمة خبراتٍ كثيرة وواسعة؛ حيث اطلع على صورٍ ونماذجَ متنوعة من البشر.

يقول الأديب الكبير الأستاذ محمد سعيد العريان وهو أحد تلامذة الرافعي، الذين لازموه في حله وترحاله، وكان يقضي معظم وقته بصحبته: كان الرافعي هبة الله إلى الأمة العربية المسلمة في هذا الزمان، لينبهها إلى حقائق وجودها، وليردها إلى مقوماتها، وليشخص لها شخصيتها التي تعيش باسمها ولا تعيش فيها، والتي تعتز بها ولا تعمل لها.

وكان إذا زاره ضيفٌ وأطال الجلوس عنده، جاء بكتاب وأشرك الزائر معه في القراءة، ويظل يقرأ حتى ينصرف زائره، وهو بهذا يضرب المثل في استثمار الوقت، وعدم إضاعته بأي شكل من الأشكال، لأن الوقت هو أثمن ما يملكه الإنسان حقًّا.

وكتاب صيد الخاطر وكتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم وغيرها من الكتب المفيدة والعظيمة النفع؛ حيث كان قليل الاختلاط بالناس إلا للضرورة، وكان إذا زاره ضيف استقبله وأحسن وفادته، لكنه كان لا يضيع وقته فيما لا يفيد، فكان يستغل وقت الزيارة في تقطيع الأوراق التي سيكتب فيها وبَرْيِ الأقلام التي سيكتب بها، فقد كان يعرف قيمة الوقت، لذلك أنجز هذه المؤلفات العظيمة التي أفادت الأمة، ولا تزال آثارها ممتدة حتى يومنا هذا.

أصيب الرافعي بمرض التيفود عندما كان في العاشرة من عمره وبعد أن نال الشهادة الابتدائية، فكان من مضاعفاته فقده للسمع، كما ترك هذا الداء أثرًا واضحًا في النطق والكلام عند الرافعي، فوجد عزاءه وراحته في القراءة والاطلاع بعد أن انقطع عن المدرسة بسبب هذه الإعاقة، وتلقى الرافعي أقداره بكل رضا واستسلام وسكينة نف

قال الشَّعْبِيُّ: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة، ما منها غزوة إلا يستخلف ابن أم مكتوم على المدينة، وكان يصلي بهم وهو أعمى، وقد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وفي غزوة تبوك يؤم الناس، وذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن ابن أم مكتوم كان مؤذنًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعمى،

وقال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويسأله: هل لك من حاجة؟، وكان يذكر ذلك على الملأ حتى يتأسى به المسلمون، ويتعلموا منه كيف يتعاملون مع هذه الفئة الضعيفة من الناس. فأي رحمة تلك التي أودعها الله قلب رسولنا الكريم؟ إ

فقال: (عبس وتولى) بدلًا من قوله: (عبستَ وتوليتَ)، تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ورفعًا للحرج عنه صلوات ربي وسلامه عليه، وتنبيهًا للأمة في شخص نبيها وقائدها، بضرورة مراعاة هذه الأمور الدقيقة والحساسة، التي تساعد على تماسك المجتمع، وإشاعة الرحمة والمودة بين أفراده، خاصة ذوي الاحتياجات الخاصة وأصحاب الأعذار

أنس: إن جبرائيل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده ابن أم مكتوم فقال: متى ذهب بصرك؟ قال: وأنا غلام، فقال: قال الله تبارك وتعالى: إذا ما أخذتُ كريمةَ عبدي - أي بصره - لم أجد له بها جزاء إلا الجنة.

إن يأخذ اللهُ من عينيَّ نورَهما

‫ ففي فؤادي وقلبي منهما نور

وصدق الشاعر إذ يقول:

‫ ومن ذا الذي تُرْضَى سجاياه كلها

‫ كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه!

فقد استعانت الأسرة بحلاق القرية ليعالجه من مرض الرمد، فوصف له علاجًا وقطرة يضعها في عينيه، فكانت سببًا في إصابته بالعمى، ولعل هذا ما جعله طوال حياته ينذر وقته وجهده لمحاربة الجهل

أصيب في الرابعة من عمره بالرمد، وفقد على أثر ذلك نعمة البصر، لكنه لم يفقد الإرادة والبصيرة، ولم ينهزم أو يعلن الاستسلام طوال رحلته في الحياة قط.

ومما تعلمناه من ديننا ومن لغتنا أن الكلام حمال أوجه، وأن العبارة الواحدة قد تحتمل أكثر من معنى، وكلما كان الإنسان أكثر علمًا واطلاعًا كان أقل إنكارًا ورفضًا وتضييقًا، وكلما كان ضَيِّقَ الفكر والأفق متحجرًا متزمتا ازداد

مثار النقع فوق رءوسنا

‫ وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه

‫ فحين استمع أحدهم لهذا الشعر سأله متعجبا: ما أحسن هذا التشبيه، فمن أين لك هذا وأنت لم تر الدنيا قط ولا شيئًا فيها؟ فأجابه بشار: إن عدم النظر يُقوِّي ذكاء القلب، ويقطع عنه الشغل بما يُنظَر إليه من الأشياء، ثم أنشده من شعره:

‫ عميتُ جنينا والذكاءُ من العمى

‫ فجئتُ عجيب الظن للعلم موئلا

‫ وغاض ضياء العين للقلب رافدا

‫ لقلبٍ إذا ما ضيع الناس حصلا

قال عنه أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الضخم الأغاني: بشار بن برد وكنيته أبو معاذ، ومحله في الشعر وتقدمه طبقات المُحْدَثين فيه بإجماع الرواة ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك يغني عن وصفه وإطالة ذكر محله، وهو من مخضرمي شعراء الدولتين العباسية والأموية، وقد شُهِر فيهما ومدح وهجا وأخذ سَنِيَّ الجوائز مع الشعراء. وقال عنه الأصمعي: بشار خاتمة الشعراء، ولولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم.

لا تحقرن صغيرًا في مخاصمة

‫ إن البعوضة تدمي مقلة الأسد

إنها الحرية وأنا حر أفعل ما أريد. وفي واقع الأمر فإن الحرية هي تمام المسئولية فكلما مارس الإنسان حريته بوعي ومسئولية تجنب ما استطاع الوقوع في مثل هذه العيوب الفادحة، ولتوقف كثيرًا قبل أن يقدم على هذه الأفعال الرعناء، ولا بأس حين يخطئ المرء أن يعترف بخطئه وألا يتمادى فيه، فالنبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه يقول: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).

ويروى أن أحد أصدقائه أراد ممازحته فقال له: يا أبا معاذ، إن الله عز وجل ما سلب أحدًا بصره إلا عَوَّضَه عنه حُسْنَ صوت أو ذكاء، فأنت فماذا عَوَّضَك من بصرك؟ فقال: عَوَّضَنِي ألا أنظر لك ولأمثالك من الثقلاء! ،وما أكثر حكاياته في هذا الباب وهي تدل على ذكائه وسرعة بديهته وحسن تخلصه من المواقف المحرجة

فأنشأ بشار يقول:

‫ أحين كُسِيتَ بعد العُرْيِ خَزًّا

‫ ونادَمْتَ الكِرامَ على العُقَارِ

‫ تُفَاخِرُ يا ابنَ راعيةٍ وراعٍ

‫ بني الأحرار حَسبُكَ مِنْ خَسَارِ

‫ فقال مجزأة للأعرابي: قبحك الله، لقد أغضبت أبا معاذ حتى نطق بمثل هذا الكلام، الذي سيصيبك وقومك بالعار إلى الأبد!