اقتباسات جلال برجس

أقسمت لأقراني أني أطير بلا جناحين. وفي اليوم التالي رفعت أمام أعينهم كتابًا، ورحت أروي لهم الحكاية

❞ على كتفي حقيبة فيها أقلام، ودفتر للكتابة، ورواية ترافقني ضد المسافات الطويلة، ودواء للقولون العصبي، وهاتف نقال. يومها تساءلت: هل صارت حياتي سلسلة من حلقات الهروب؟ أم أني عبر القراءة، والكتابة، والسفر، أسعى إلى ضجيجي الجواني كمن يهاجم وحشًا بقي يخيفه لسنين مُطلقًا صرخاته، وهو على رأس الجبل في الليالي المعتمة؟ ماذا لو، في هذا الزمن الملتبس، لم تفتح لي الكتابة بابها، فأعطتني تصريحًا مطلقًا بأن أفرغ ما بي على الورق؟ ربما أكون إما مجنونًا، أو مجرمًا مطلوبًا للعدالة. ❝

كنت منفصلاً عن أحاسيسهم القروية الساذجة وهي ترى في السفر احتمالات غياب أبدي، ومتصلاً بفكرة الهروب ليس فقط من القحط والغبار والألم نحو بلدان خضراء، بل من احتمال عودة ضجيجي الجواني.

❞ ‫ لم تكن جدتي تستسهل سرد الحكاية، ولا حتى ترويها انصياعًا لرغبتي؛ لا تقولها إلا إذا أحست برغبة ملحة تدفعها إليها، كأنها تفعل ذلك لأجلها هي، وما علينا إلا أن ننصت، نكمل مهمتها السرية في السرد؛ مهمة امرأة مزاجية، قاسية، حنون، سريعة البكاء، سريعة الغضب، حكيمة، لها روح تواقة للحياة، لها روح ساخرة، لها روح سوداء خليط يصعب أمامه استنتاج تحليل واضح لشخصيتها. لكن ما فهمته من كل ذلك التعدد في السمات؛ هو الولع بحكايات أدركتُ فيما بعد أنها تقولها من أجل استصلاح مناطق جوانية في تكوينها العجيب. ❝

تساءلت: هل قرأت جدتي (ديستويفسكي)، و(تشيخوف)، و(تشارلز ديكنز)، و(محفوظ)، و(باختين)، وكل من وصلوا إلى قمم السرد، وأعادوا صياغة العالم عبر رواياتهم؟ أم أن هؤلاء قرأوا الجدات جيدًا؟

في تلك الليلة جافاني النوم لأول مرة في حياتي، وبت أسيرًا لضجيج جواني، أسمع معه كلامًا محاطًا بصدى موحش. حالة يختلط فيها الترقب، بالرهبة، بالارتباك، بالشعور بقرب الإغماء.

لأن الحياة بلا حب، مثل بيت من ورق، ستطيح به الريح كلما جن جنونها.

. برهنت لي تلك الأيام أن أكثر الصداقات قدرة على الاستمرار هي التي تحدث ونحن نقف قبالة العاصفة

. كانت حياة صعبة، لكنها بلا هم، ولا غم؛ بل يميزها تفاؤل كبير، ونفوس نقية.

القرارات المصيرية لا تأتي إلا بتضحيات جسام

والقراءة سعي إلى عوالم جديدة تثير في أجنحتنا شهوة التحليق، والاحتماء بالخيال، وإرخاء الرأس على كتف مواسٍ، والنظر في مرايا تطلعنا على ما وراء وجوهنا، وعلى حقيقة ما نحن عليه.

يبكي الأطفال حين تغيب عنهم أمهاتهم لدقائق، ويبكي الرجال حين تموت أمهاتهم من دون أن يفصحوا عن طفولتهم الكامنة فيهم إلى الأبد

السفر خروج على الرتابة، وسعي إلى الشمس، تمامًا مثل حجر في الربيع، ما إن نقلبه حتى يتنفس العشب الذي كان تحته،

حوّاء وطن، والوطن قلب حوّاء الدّافئ، فلا تسرقوا شموسه·

أنّ

⁠‫«البكاء بمعيّة الماء، مداراة ليس لشكل الدّموع وهي تسحّ على الوجه، إنّما لتلك التي تهبط من أعالي الروح إلى حفرة في القلب؛ لتزيد بمخزون الفجيعة»·

ووجدتني أختار ألوانًا داكنة وأرسم البنايات كأنّها أشجار محنيّة ذابلة· موجع أنْ تشعر بأياد تسلّل إليك لتعلن فيك الانهيار، ومؤلم أنْ تحسّ بأنّ النّهر الذي كنت تعوّل على جريانه الأبديّ ينقطع مرّة واحدة، لهذا مزّقت اللّوحة ونمت·

(درِّبوا أنفسكم على الإنصات للسّكون· إنّه سيِّد الحزن، وأمير التَّأمُّل، وملك باحث عن الإجابة· فليس كلُّ صمت هدوءً· وليس كلُّ هدوء صمتًا، فالشَّمعة تقاوم الظُّلمة دونما أيِّ ضجيج، حتى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة)

ثمّة جزء في البصر لا يمكن لأيِّ جهاز طبِّي أنْ يختبره· إنَّه الجزء الذي حينما نرى الأشياء بصورتها الاعتياديَّة يمنحنا شكلها الآخر المتواري وراء حجر الغفلة· كأنْ ترى دمعة تختبئ خلف ابتسامة عريضة، فتصابُ بِحيرة تخلّفها تلك الابتسامة، وهي تعاند دمعة تنفخ في ناي الأسى·

نجلد ذواتنا من دون أن نعي، ونفعل ذلك مع من نحب·

الأوطان لا يهدمها المحتلون فقط؛ إنما يحدث أن يهدمها محبوها أيضًا·