اقتباسات إنعام بيوض

من السّهل أن نرجع لماضٍ نعرفه عن أن نطمح لمستقبل نجهله. التغيير مخيف. ولا أحد يعرف ذلك أفضل منه. كم تمنّى لو كان فلّاحًا أو إنسانًا عاديًا لم يتلوّث فكره بأصناف المعارف النظرية. يعيش حياته يومًا بيوم، لا يكترث إلّا لارتفاع سعر البطاطا في السوق، ومنتهى السعادة لديه أن يُضحّي بكبش العيد ويُتخم باللحم والقدّيد.

منذ مدّة وهو يفكّر في الانسحاب من التنظيم. بدأ يشعر بانعدام التناغم بين جماليات المبادئ ومفارقات التطبيق. اختلاطه بعامّة الناس زاد من قناعته بعمق الهوّة التي تفصل بين رفاقه المنظّرين لمجتمع افتراضي مؤدلج، وبين مرارة واقع الحال للسواد الأعظم من المجتمع الحقيقي.

كان أكثر ما يحزّ في نفسه تغافل الرفاق عن تحذيراته المستمرة من حراك كامن يؤجّجه اليأس، ومن أنّ كلّ أماكنهم السّرية المخصّصة للاجتماعات لا يمكنها أن تقف في مواجهة أصحنة المساجد ومنابر الأئمة المأجورين، ولا لشعاراتهم الرنّانة في تحقيق العدالة الاجتماعية أن تقف أمام الوعد بالجنّة.

وحين يجد من يتوسّم فيه بعضًا من سعة البصيرة، يقوم بتحليل الأوضاع في المنطقة بأسرها، ودور النزعات الاستعمارية الجديدة الرامية إلى الاستحواذ على مسارات التزوّد بالطاقة والمياه، عن طريق زرع الخوف، وتأجيج الفتن، وافتعال الحروب. وبأنّ المجتمع البشري في التاريخ المدوّن قد مرّ بعصور ثلاثة: عصر الأديان ثمّ عصر الإيديولوجيات وها هو الآن يشهد عصر المال، ولكلّ عصر رصيده الضخم من الضحايا. لكنّ عصر المال أشدّ فتكًا من سابقيه، لأن القائمين عليه، وهم قلّة، على استعداد للتضحية بثلاثة أرباع البشرية للمحافظة على امتيازاتهم. والغاية هنا تبرّر الوسيلة: خلق بؤر التّوتّر، استنفاذ الموارد الطبيعية، نشر الأوبئة…

لطالما كرر على مسامعهم أننا في الماضي كنّا نحارب عدوًّا نعرفه ونعرف وسائله، أمّا الآن فإنّ العدوّ بيننا أخرجته تعويذة شيطانية من رحم كتب صفراء بالية، ومن أذهان حجّرها الجهل والفقر.

ليس من المجدي محاربة الغيبيّات بأخرى أكثر منها إغراقًا، ولا تُبنى الصروح على أسس رثّة.

هل يحتاج المرء فعلًا إلى التطلّع للغيب كي يمارس إنسانيته الحقّة؟ ولماذا لا يتعلّم البشر من تجارب من سبقوهم؟

❞ لم يكن أحدٌ منّا يتقن تعابير المحبّة كما لو كانت ترفًا لا يليق بالفقراء. ❝

❞ فجوة ثقافية عميقة كانت تقف بيننا. يُخيّل إليّ أنني أحتاج لحياة أخرى من أجل تجسيرها. في الواقع، الفجوة كانت روحية أيضًا. فقد كان فيه شيء سماوي لا أقدر على تحديده. نبيّ بُعث في غير زمانه. ويحيّرني ظنّي بأنني لم أكن ❝

❞ كان مستندًا على الحائط ينتظر حدوث فاجعة مؤكّدة. لم يدر ما الذي تداعى إثر ذلك: الحائط أم جسده الصغير. ❝

❞ شعرت حينها بأنّ الانتظار سبب وجيه للحياة، يملأها بمطلق التّرقب. ❝

اعتاد أن يتعلّق بعربة صهريج بائع «الماء الحلو» الذي يسقي أهل اكميل ماءً عذبًا. لأن الماء الذي يتقاطر -حين لا يكون مقطوعًا- من حنفيات مدينة وهران كان أجاجًا، يصعب شربه خاصة لغير الوهرانيين. وهو أمر ليس جديدًا، إذ يذكر كبار السن أنّهم لم يعرفوا في حياتهم طعمًا آخر للماء. لدرجة أنّه عندما تم تحديث شبكة توزيع المياه، وأُدخل الماء العذب للبيوت، صار هؤلاء يضيفون الملح للقهوة أو الشاي حين يشربونه.

خيّل إليّ في البداية أنّ صاحب المحل لا يعيرني اهتمامًا، ولا يشعر حتّى بوجودي. لكنه أسرّ لي بعد أن أصبحت من المواظبين على محلّه بلهجة مرحة وبكياسة البْلدي، ليبدد حرجي من عدم تمكّني دفع المقابل:

فوهران تقاوم التهالك والرتابة بالبساطة.

‫ مدينة لا تفتأ تخترع من العدم مفردات مبتكرة للبهجة وتنشرها بما تحتفظ به من طُبوع.

❞ أسمع عبارات كانت تطلق قبل أكثر من عشر سنوات، ولم تكن تثير فينا أكثر من التّذمر من أشخاص يتدخّلون فيما لا يعنيهم. لأننا لم نكن نتوقّع أنها كانت تعبّد مسارات الجحيم. ❝

❞ ولسعتني بنظرة أرفقتها بعبارة قالتها ربّما لنفسها: «ماشي راجل». لم تُحدث هذه الجملة أيّ تأثير في نفسي بل بررّتها بأنّي قبلت بها زوجةً على محدودية فكرها، فلتقبلني على محدودية رجولتي، إن كان هذا معيار الرجولة فعلًا. ❝

❞ لا أذكر أني تمرّغت في دفء حضنها وهي تشبعني تقبيلًا. لم يكن أحدٌ منّا يتقن تعابير المحبّة كما لو كانت ترفًا لا يليق بالفقراء. ❝

❞ وماذا لو صحّ ذلك؟ فلطالما سمعنا عن أولاد يقتلون آباءهم وأمّهاتهم إرضاءً لربّ جبّار اخترعوه، يقتات جثث الأبرياء ويرتوي بدمائهم. ربٌّ لا يُفصح عنه أيّ دين. ❝

❞ يتذكّر كلمات تلك الأغنية التي كانت تبثّها الإذاعة المحليّة والتي كانت لمطرب مشهور: وهران وهران رحت خسارة

⁠‫هجروا منّك ناس شطارى

⁠‫قعدوا في الغربة حيارى

⁠‫والغربة صعيبة وغدّارة ❝

❞ لكن ماذا لو صدق ما تحلم به، وأصبحت فعلًا حورية؟ من سيقبل بمضاجعتها؟ حتى المكفوفين يُقال بأنّهم يسترجعون بصرهم في الجنّة ❝