كنت أبحث عن حزن يشبهني، فوجدت "حزنًا للإيجار"
كم كنت ذكية، يا رنا، حين وضعتِ يافطةً على بوابة القصيدة تقولين فيها: "لديّ حزن للإيجار". وكأنك تتركين للغرباء فرصة الدخول في غرفة روحك، شرط أن لا يُحدثوا فوضى في الأثاث، ولا يعبثوا بمزهرية الذكرى القديمة.
في ديوانك "عيني أعمق من البحر"، لم أقرأ شعراً، بل تهويدات خافتة لحزنٍ ينام متكوّرًا في زوايا النص. قصائدك لا تطلب تفسيرًا، بل حضنًا. لا توضيحًا، بل إنصاتًا. شعرت أن كل واحدة منها خُلِقت لتُلقى في أذن قلبٍ مرتبك.
في قصيدة "تهويدة"، تحدثتِ عن حزنٍ كما لو كان طفلًا يحتاج إلى من يهمس له في الظلام. وعدتِه ألا تتركيه يستيقظ وحده إن باغته الكابوس. ألا يُشبه هذا كل ما نحتاجه؟ أن نجد من يطفئ عنّا أضواء الوحشة، من يغلق النوافذ قبل أن ينفذ منا البرد؟
وها أنا أقول لك: كانت تهويدتك أشبه بمفتاح صغير، فتحتِ به قفلًا فينا. جعلتِ من الحزن رفيقًا، لا عدوًا. من الخوف حكاية ما قبل النوم.
ثم تلك القصيدة التي تهمس للقارئ بألّا يخدع نفسه: "لستُ وحدي". لقد جربتُ ذلك، يا رنا. جلستُ طويلًا أمام جدار، وأنصتُّ. وللمرة الأولى، لم أسمع الصمت، بل صوت خيبتي وهي تهمس لي: أنا هنا أيضًا. كم كان مرعبًا أن تكون الوحدة مزدحمة بهذا الشكل!
ولم أكن أتوقع، حين قرأت "الأوركسترا"، أن يكون الظل هو من يريد الهرب. لم تقولي إنك تريدين الفرار فقط، بل جعلتِ الحيرة تنهض من نفسها، والمكان يضيق لا بك وحدك، بل بكما معًا. هل يمكن للقصيدة أن تكون عزفًا؟ نعم، إن كانت بهذا اللحن.
ما الذي جعل هذا الديوان يستقر داخلي؟ ربما لأنه لا يعرض حزنه كندبة، بل كغرفةٍ لها نوافذ أربع، جميعها مشرعة، كما في أولى القصائد. وربما لأنك كتبتِ الحزن بطريقة تجعلنا نريده، لا نكرهه. نطلبه في آخر الليل، لا نفرّ منه.
هذا ديوان لا يُقرأ دفعةً واحدة. بل يُحتسى، كما يُحتسى فنجان القهوة في قصيدة الافتتاح. ديوان يجعل القارئ يشعر أنه في حضرة أنثى تُجيد الإصغاء، لا الكتابة فقط.
أعترف لكِ، رنا: هذا الديوان جعلني أشتهي أن أستأجر حزنًا لي أيضًا، فقط لأكتب له تهويدة.