يقول توفيق الحكيم في كتابه فن الأدب: "إن الابتكار الأدبي هو أن تتناول الفكرة التي قد تكون مألوفة للناس، فتسكب فيها من أدبك وفنك ما يجعلها تنقلب خلقًا جديدًا يبهر العين ويدهش العقل."
هذا ما فعله نجيب محفوظ بالضبط – كما يقول الكتاب – في رائعته وتحفته البديعة، رواية ليالي ألف ليلة.
ما الذي ميّز رواية محفوظ عن غيرها من الأعمال التي اتخذت ألف ليلة وليلة ثيمةً لها، وتناولتها بشكل درامي على الشاشات أو قصصيًّا بين سطور الصفحات؟
في اعتقادي، أن واحدة من أسباب شهرة قصص ألف ليلة وليلة هي خصوصيتها المحدودة بغرفة السلطان، بمعنى أن الجميع يعرف القصص وسمع عنها أو قرأها بنفسه أو شاهد أعمالًا مأخوذة عنها، لكنها ظلّت في سياقها المألوف منذ بدايتها.
تدور الأحداث في نطاق محدد وواضح، رغم اتساع رقعة أماكن القصص والأحداث، لكنه اتساع مرهون بالقصص نفسها التي تُروى على لسان شهرزاد. فهي، في كل ليلة، تحكي قصة مختلفة بأماكن وشخصيات مختلفة، لكن المكان الأصلي للحكاية ظلّ محدودًا ومرتبطًا بغرفة السلطان شهريار ومخدعه.
إلى أن جاء محفوظ، فاستطاع أن يكسر هذا النطاق المحدود، وينزل بالقصص إلى الشارع، بين عامة الشعب. فلم تَعُد الحكايات مرهونة بمكان بعينه أو أفراد محدودين، بل جعلها محفوظ مشاعًا بين الناس العاديين أنفسهم.
وكما يصف توفيق الحكيم الابتكار الفني بأنه "أن يسكب الكاتب فنه وإبداعه الخاص"، نشاهد العلامات المميزة لأدب نجيب محفوظ، مثل المقهى الذي يظهر بقوة ويُعدّ عنصرًا أساسيًّا ومميزًا في أعماله.
كذلك، نجد أسماء شخصياته مثل عجر الحلاق، جمصة البلطي، صنعان الجمالي، ومعروف الإسكافي، وهي أسماء غريبة نوعًا ما، لكنها مألوفة في أي حارة شعبية، أو على الأقل في روايات محفوظ.
لم يكتفِ محفوظ بدمج عوالمه الأدبية بعوالم أسطورة ألف ليلة وليلة فحسب، بل تخطّى حيز الحكاية نفسها المعروفة، وصنع حكاية أخرى، بدايتها كانت نهاية الحكاية الأصلية التي انتهت بزواج شهريار من شهرزاد وتوقّف الليالي الدموية.
كثيرًا ما يشغلنا مصير شخصيات أو أماكن في قصة ما، خاصة إذا جاءت نهايتها مفتوحة، ولم يضع الكاتب خاتمة منطقية ترضي أغلب القراء. لكن حتى مع نهاية ألف ليلة وليلة، التي اكتفى بها الكثيرون، لم يرضَ عنها نجيب محفوظ، أو ربما شعر بأن نشوة الحكي والسرد المتواصل لا يمكن لها أن تكون قد انتهت بتوقف لسان شهرزاد عن الحكاية. فتمكن بعبقريته المعهودة أن يمنح تلك النشوة مساحة جديدة تنطلق فيها مرة أخرى، بمجرد أن غيّر النطاق الأصلي الذي بدأت منه.
فأيّ شخص تقريبًا في هذه المدينة المجنونة يمكنه أن يقابل عفريتًا ما، أو يحدث له شيء غريب بسبب حركة لا إرادية أثناء نومه، لتبدأ قصة جديدة.
نحن كذلك لم نعرف ماذا حدث لشهريار بعد أن ارتضى بشهرزاد زوجةً له، واكتفى بها، وتوقف عن سفك الدماء. لم نتعرّف على هذا الإنسان الجديد الذي تأثر بفن الحكاية وجمالها.
أعتقد أن أحد أهداف محفوظ في كتابة ليالي ألف ليلة هو إيصال رسالة مبطّنة، خاصة لأولئك المشكّكين في جدوى قراءة الأدب وتأثير الحكاية الجيدة.
فنجد الرواية تذكر، في أكثر من موضع، تأثير قصص شهرزاد على شخصية السلطان وطريقة تعامله مع أفراد شعبه.
وقد أشار إلى ذلك وزيره دندان في حديثه مع ابنته عندما قال: "لقد تغيَّر السلطان وتخلَّق منه شخص جديد مليء بالتقوى والعدل."
وكذلك تصريح شهريار نفسه، في موضع آخر، عندما قال: "علّمتني شهرزاد أن أصدّق ما يكذّبه منطق الإنسان، وأن أخوض بحرًا من المتناقضات، وكلما جاء الليل تبيَّن لي أني رجل فقير!"
هذا ما يفعله الأدب الجيد والحكايات بالإنسان؛ يجعله شخصًا مختلفًا عمّا كان عليه، بشرط أن يتفاعل معها، ويسمح لها بأن تتغلغل في داخله، ليشعر بتأثيرها العظيم.
هذا ما يخبرنا به العم نجيب في رائعته الأدبية التي قلت عنها سابقًا:
"لو وُضع كل حلو الدنيا في كفة، وفي الكفة الأخرى رواية ليالي ألف ليلة، لرجحت كفة رواية نجيب محفوظ."