🔷️🔹️ مراجعة رواية (الأسير الفرنسي) للروائي السوري "جان دوست".
(القائمة الطويلة لجائزة بوكر للرواية العربية 2025)
عندما أقرأ رواياتٍ تاريخية أقرأ بعينِ الرقيب المدقّق وبعقلٍ متنبّهٍ واعٍ خشية أن يعبث الكاتب بالتاريخ إرضاءً لمزاجه الروائي أو تشويهاً مقصوداً لمواقف أو شخصيّاتٍ تاريخية معروفة (روايات جرجي زيدان أنموذجاً).
في رواية الأسير الفرنسي يستلهم الروائي السوري الأريب "جان دوست" حدثاً تاريخياً غير شهير، هو رحلة ملحميّة مليئة بالمفآجات! حيث يسافر المستشرق والمبعوث الفرنسي "بيير جوبير" من باريس إلى إيران لايصال رسالة مدعمة بنفيس الهدايا من "نابليون بونابرت" إلى الشاه الإيراني؛ ليتأكّد من صدق رسالته حول عرضه بإنشاء تحالفٍ عسكريٍ بمواجهة الأتراك والإنجليز.
يقع "بيير جوبير" ورفاقه (الفرنسي فيليب، السائس علي الكردي، ومادو اللازي) أسرى في سنجق بيازيد على الحدود الإيرانية في سجنٍ أرضيٍّ لاباب له ولامنفذ إلا كوّة علوية يدلونهم ويسحبونهم منها وإليها بالحبال. ولبيازيد هذه حاكمٌ جائر جبّار هو "محمود باشا" الذي لايحفظ إلّاً ولاذمّةً ولايردعه رادع دين، أو يحجره عن البطش خلقٌ قويم.
هناك، وحيث تتنفّس الجدران وحشة الأسرى وعذابهم، وحيث تصرخ أرواحهم بصدى وعودٍ كاذبةٍ بالتسريح والإفراج بحجّةٍ لفّقها لهم "محمود باشا" بأنّه ينتظر ردّاً بشأنهم من الباب العالي. سرعان ماحوّل الأسير الفرنسي خواء الزنزانة إلى ساحة للمقاومة الفكرية، صار يستحضر ذكرياته في إكس الفرنسية مرتع طفولته، وفي باريس التي شهدت يفاعته وانطلاق شبابه، كان يلتذّ بانهمار ذكرياته تباعاً فحرص على كتابتها وتدوينها.
حاول الأسير استمالة السّجّان إليه (واسمه أيضاً محمود آغا)، واستعطفه كي يجلب إليه ورقاً وآلة الكتابة، فوجد منه ومن حفيده "حسين" قبولاً ورأفةً فدفعا إليه بمايلزمه في بادرةٍ اعتبرها الأسير غير متوقعة. كانت تلك الهدية الصغيرة تعني له العالم بأسره. وبحماسٍ لم يشعر به منذ زمنٍ بعيد، بدأ يدوّن حكاياته، صفحات سيرته الذاتية بدأت تنبض بالحياة، وتحكي عن أحلامه المكسورة، وآماله في استعادة حريّته وأداء مهمّته، وذكرياته السعيدة التي لا تزال تعيش في قلبه، وتجارب الألم والندم التي حفرتها الأيام في كيانه.
كان كلما يكتب، يأخذ نفساً عميقاً، ويأخذنا معه في رحلةٍ جديدة إلى خارج الجدران، حكى لنا عن رحلته إلى مالطا وعواصف البحر الأبيض المتوسط، وسفن الإنجليز، حكى لنا كيف اجتاز صحراء مصر اللاهبة وسطوة العربان وغاراتهم المفاجئة، حكى لنا عن عكّا وحاكمها الطاغية الجزّار، والمقتلة البشعة لأسرى العثمانيين في يافا، وحكى لنا أولاً عن رحلته من إيكس إلى باريس ومشاهداته المروّعة لجثثٍ بلا رؤوس كانت المقاصل المتنقلة قد غرّدت عليها أغانٍ دموية خلال أحداث الثورة الفرنسية وماتلاها.
لقد أدرك "بيير" أن الكتابة ليست عملية إبداعية فحسب، بل هي أيضاً آليّة ناجعة للتطهير النفسي. كما فات الحاكم الظلوم حقيقة أنّه حتى في أحلك السجون، تظل روح الإنسان حرّةً كطائرٍ يبحث عن سماواته.
وبينما نحن نستمرّ في سردية الرواية نجد أنفسنا نتساءل: هل نحن حقًا نمتلك السيطرة على مصائرنا أم أن القدر هو من يكتب النهاية؟ في كل مرة يذكّرنا الكاتب بدور القدر وأنّ الحياة مليئةٌ بالمفاجآت، وأن القدر لايجامل بل يأتي حاسماً، قوياً، ضارباً في جوهر الأحداث وأساسها ليعلّمنا أن أفضل الخطط وأشدّها استحكاماً يمكنها أن تتحطم أمام قوته وسلطانه.
ألمح الكاتب عَرَضَاً وفي سطرٍ واحد إلى بطل روايته "عشيق المترجم" -شخصياً- تأسرني مثل هذه التلميحات، والتي لايمكن للقارئ اقتناصها إلا إن كان من محبي أعمال الكاتب وقرّائه الأوائل.
حَشَدَ الكاتب جان دوست الكثير من الشخصيات الثانوية والأحداث التاريخية المتفرقة، ووظّفها توظيفاً حسناً لم يخل بنسيج الرواية ولم يأتِ ذكرهم اعتباطاً، والأجمل أنّه لم يبتعد بها عن محور الحكاية الأساس ولم يشتت القارئ، هذه الأحداث التاريخية تستوجب على الكاتب بحثاً وجمعاً ودراسةً، وتدقيقاً نبيهاً يُثنى عليه حقاً ويُشاد به.
وزبدة القول: يتحدث القدر في هذه الرواية بصوتٍ عالٍ ليترك لنا درساً عن النجاح والفشل؛ فلنصغِ جيداً إلى ذلك الصوت، لأنه قد يكون أكثر من مجرد صدى في عالم القصص.
• الأسير الفرنسي
• جان دوست
• دار الساقي، 2023
• 328 صفحة.
(قرأتها على #أبجد)