ها نحن نعودُ إلى خط البداية و نتخيل حال أحمد أمين عند كتابته لمجلده الاول ، فياهل ترى كان يعلم أنه سيكتب بعده كل هذه المجلدات أم إنها توالت تباعاً و جرى القلم على الورق دون توقف ؟!
كم أتمنى لو أعود بالزمن للخلف لأعرف الحقيقة و الدافع وراء كتابته لهذا الكم ، ربما امتلأ خاطره و فاض فسكب كل هذا على الورق.
قرأتُ فيما قرأتُ عن إختلاف الذوق الادبي و النقد بين كبار الكتاب فهناك من يتبع الذائقة في نقده وهناك من يكاد يسب و يلعن وأحمد أمين يحتار في كتابته عن أي من الموضوعات الشائكة و لكن قلمه يأبى أن يصمت ، ومن المقارنة بين انواع النقد إلى مقارنة اخرى بين نوعي الأدب القوي والضعيف الذي ارتبط ارتباطا وثيقاً بحال الأمة العربية في كل عصر فمن الجاهلي للعباسي و هكذا تتوالى الأمم ويتأثر الادب بوضعها الأخلاقي والاجتماعي ، وقد ظُلِم أحمد أمين عند كتابته لهذا المقال وأتُهِم إنه بلا قلب فدافع عن قلبه كمصدر للفن كما هو مصدر للحياة.
اكتشفتُ أن السير الذاتية غالباً ما تحمل إلينا مفاجآت حتى وإن كانت مجرد نبذة عن حياة شخص في عصر ما فأحياناً هذه النبذة تدفع القارئ للبحث والإطلاع أكثر وأكثر لعله يرتوي ، فلم أكن أعلم أن هناك من يُكنى بسيبويه المصري لإتقانه النحو ، وقد عُرِفَ في العصر الإخشيدي بقوة لسانه الذي خافه كل صغير و كبير و قيل عنه «إنه إذا لم يكن له من يهيجه لم يخرج علمه» وقد انتقد أحد أبيات المتنبي الذي ابتسم عند سماعه له ولم يعاتبه.
وكان دخول الراديو للمنازل في هذا العصر بمثابة معجزة كما كان دخول المياه والكهرباء قبله معجزات أخرى فكل فترة تدخل أسلاكاً إلى المنزل وتحفر في الجدران ويظهر بعدها اختراعاً جديداً يحمل معه المفاجآت وتظل الحياة تأتي لنا دوماً بكل جديد كلما توالت الأجيال.
وقد لاحظتُ إني كلما قرأتُ مقالاً في الكتاب خرجتُ بلغةٍ و علمٍ ومتعةٍ مجتمعين سويا حتى إن كتب عن عصر غير العصر، و لكنه بأسلوب كتابته تمكن من جمع أكثر من عصر في مقال واحد ، لا أعرف كيف بامكاني أن أصف أسلوب كتابته بأفضل من هذا ولكنه حقاً يصعب الاكتفاء من قلمه.
❞ أخشى أنا نكون في كلا الحالين مُفْرطين ومُفَرِّطين، وأن نكون في (كتابنا) قد غلونا، وفي رياض أطفالنا قد غلونا. ❝
فقد كتب عن أيام طفولته في الكتاب في مقال "سيدنا" وأسهب في وصفه حال الأطفال وقتها و ما يتعلمونه هناك ، كتب حتى عن شعوره بنوع من الفخر بعد أن تذوق مختلف العلوم مقارنةً بالشيخ الذي حسبه قليل العلم.
تحسب مقاله حديثاً شخصياً فهو يستمر في الحديث عن نفسه حتى نهاية المقال التي تكشف لك الهدف الحقيقي وراء كتابته حين قارن بينه وبين نفسه في ذات العمر ليدرك قيمة القسوة عليه قديماً.
ويأتي بعد حديثه عن نفسه سؤالٌ يتوارد على الأذهان ، أحقاً يُعد الألم نعمة من ضمن النعم ؟ قرأتُ المقال فأجابتني سطوره بكل أريحية إن الألم بكل ما يحمله من معاناة إلا أنه يخفي خلف ظهره نعمة لا نستشعرها إلا بعد زواله ، ومن العجيب في الأمر إنه بعد وفاة أحمد أمين بسبعين عاماً تصادف أو تعمدت مؤلفة معاصرة لا أدري اختيار ذات العنوان لكتابها ولا ينقص هذا من قدرها ، فقط تذكرت ذات العنوان.
❞ فكل شيء في الحياة موضوع أدب، وخير الأدب ما مس الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الأشياء فكرة بديعة ❝
رأى أحمد أمين من وجهة نظر أحد شخصياته إن الأدب يمكن استخلاصه من أي موضوع ماهما بلغت تفاهته وأنا بالطبع أتفق مع هذا الرأي للغاية خاصة بعد أن نجح في إثبات صحة وجهة نظره بمقاله عن "صندوق الكتاكيت".
نعم صدق أو لا تصدق لقد كتب عن هذا حقاً فقد تناول الموضوع رغم بساطته و غزل منه موضوعٌ عميقٌ بحق عن الفرق بين الإنسان والكتكوت في صنع الحروب برغم عقلية الإنسان .
سمعنا كثيراً عن صحابة الرسول عليه افضل الصلاة والسلام و لكن نادراً ما سمعنا عن من لم ينل منهم شرف الصحبة و رغم ذلك كان منهم من هو أشبه بكبار القوم في أخلاقه و سيرته ورجاحة عقله وحكمته التي تجاوزت الحدود حتى وصلت إلى خراسان مكاناً و بعد الخلفاء الراشدين زماناً.
ولعل أجمل ما قيل عن الأحنف بن قيس التميمي هو انحيازه لعلي بن أبي طالب ضد معاوية ، وبعد قتل علي خاطب معاوية باسلوب بليغ مفاده أننا سوف نتعامل وإياك مثلما تُعاملنا.
وقد قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام "من علمني حرفا ملكني عبدا" ، وهكذا لم يغفل أحمد امين دور عاطف بركات وتأثيره على حياته حتى إنه بعد موته كتب عنه مقالاً رائعاً ربما كنوع من العرفان لناظر مدرسة القضاء الذي كتب عنه
❞ كان في المدرسة نحو أربعمائة طالب؛ ولست أكذبك إذا قلت: إن كل طالب كان يشعر أن ناظره يعرفه ويقدره ويزن كفاياته العلمية والخلقية، وأن نظره ينفذ إلى أعماق نفسه فيعرف بواطنه قد أعد للطلبة دفترًا وجعل لكل طالب صفحة يقيد فيها بخطه ما يصدر عنه ❝
وهكذا ظل عاطف طوال حياته يقدم لعمله وللطلاب دون أي شكوى أو ضيق لذا فقد استمر هذا التأثير إلى ما بعد وفاته كما ذكرت.
كتب مقالاً آخر فاجئني بعنوانه "أدبنا لا يمثلنا" وبرغم دوري كقارئة و مُحاولة لتذوق الأدب إلا إني شعرتُ أن هذا العنوان سُبة للأدب و أحمد أمين بالطبع أرقى من كل هذا ، وكالعادة في أثناء قراءتي لفيض الخاطر تسلل إلى ذهني سؤالاً فإن إفترضنا إن الأدب العربي وقتها كان فقيراً لا يمثل الأمة العربية مثلما يفعل الأدب الغربي تجاه أمته وهذا ينطبق على كلا النوعين من الأدب سواء الأدب العربي القديم او الأدب العربي الحديث .. فهل الأدب في عصرنا الحالي يمثلنا ؟! أقصد هل بكم التنوع و التعدد في تصنيفه و مؤلفينه و قراءه يعد مرآة لعصرنا بكل ما فيه؟!
أخشى أن أذكر إنه يمثلنا حقاً فأكونُ منحازة له ولكني حقاً أودُ لو كان بإمكاني أن أكتب لروح أحمد أمين أن الأدب الآن يحاول أن يجمع بين الأدبين العربي والغربي.
وقد ذكر أيضاً في مقاله أن الأدب العربي القديم يستحق إلى تفسير وتوضيح مما يُفقده بعضاً من بلاغته ، و قد ذكرني هذا الحديث بالأعمال المترجمة التي يفضل قراءتها بلغتها الاصلية إن أمكن حتى لا تفقد قيمتها مع الترجمة.
تحدث قليلاً أيضاً عن أنواع المقالات سواء علمية خالصة أو اجتماعية و عما يتطلبه كل نوع من الكاتب مثل المزاج الرائق والاستعداد الشخصي لكل موضوع قبل الكتابة عنه ، والإختلاف في أسلوب الكتابة بين كل كاتب و غيره فهناك من يكتب للخاصة و هناك من اختار أن يكتب للعامة.
واختتم مقاله بأنه يجب على كل كاتب تجربة صروف الأدب المختلفة حتى يصل إلى أفضل ما يكتب فيه أى يعثر على نفسه في واحد منهم دون إضاعة الكثير من الوقت والجهد.
❞ فخير لنا أن نبذل جهدنا في إظهار الفضة بخير مظاهرها من أن نحاول — مع الفشل الدائم — أن نقلبها ذهبًا. ❝
ولعل ترتيب الحديث عن هذا الموضوع تأخر قليلاً في هذا المجلد و لكنه بالتأكيد مناسب جدا وضعه في المجلد الأول من فيض الخاطر.
وبين هذا وذاك يصف حاله في رأس البر في ظل طقسها المعتدل و تلاقي البحر والنيل سوياً فيها والذي لا تملك عند رؤيتهما إلا أن تسبح الخالق وتتعجب من حسن خلقه ، وأحسب أن هذا اللطف الذي كتب به مقاله عن عدم رغبته في البعد عنها هو متطلب اساسي في الحياة كي تستمر و كما شعر هو بالهدوء النفسي نقله إلينا على الورق.
وبالرغم من مرور الزمن على رأس البر و تغير الأحوال بها عن زمن كتابته إلا إني لم اشعر إنه مقال مر عليه الزمن بل تخيلت انها تشبه في حالها القديم باجوش حاليا.
قص علينا أيضاً أن هناك حرباً قائمة بين المجلات و الكتب مما يوضح مميزات و عيوب كل منهما وهناك أيضاً أدوات حرب يستخدمها كل طرف لإنتصار الطرف الآخر عليه و لكن المختلف في الأمر أن استمرار هذه الحرب مفيدة للقراء من جميع النواحي شرط ألا يبيد أحدهما الطرف الآخر فالحرب سوف تساعد على إظهار مواطن الضعف والعمل على تحسينها.
وللمرة الثانية في ذات المجلد يعترف أحمد أمين بدور واحد من مدرسيه في مدرسة القضاء متتبعاً آثاره بعد أن تركها وغادر فيحكي عن زهده و غربته وانعزاله و رحمته للناس و لنفسه ، وبرغم انعزاله إلا أن جنازته تميزت بكثرة عدد من ساروا فيها حتى إن لم يلتقوا به في حياته إلا أنهم سمعوا عن سيرته الطيبة فحسب.
ولم يكتف أحمد أمين بوصفه لكل ما يحيط به من طقس وأحاديث وجدال و اشخاص التقاها فتركت آثاراً في حياته بل ارتفع بطموحه حتى وصل إلى عنان السماء و نجومها التي ما انفك البشر باختلاف عصورهم منحها أهمية كبرى تتوقف عليها خططهم أحياناً ولكنه نظر إلى عظمتها من وجه آخر يمنحه السكينة والهدوء و تجاهل كل ما في الأرض من تفاهات و صغائر.
جذبتني بعض عناوين مقالاته كما "الصدق في الأدب" فنظرتُ إليها بتعجب وتساءلتُ وهل هناك ما يسمى بالكذب في الأدب ليكون هناك صدقاً؟! قرأتُ بعدها المقال فأجاب سؤالي بكل صدر رحب ضارباً الشعر والشعراء كمثال سواء في المبالغة في المدح و الذم أو نسب بعض الصفات إلى انفسهم ، ويظل أجمل ما قيل في هذا المقال هو أن الصدق يمنح الأدب قوة بل و يمنحه أثراً باقياً يصعب اختفاءه.
وكعادة مقالاته فقد طرق أبواباً لم تُطرق بهذه الشاكلة قبلاً فنحن نستخدم في عاميتنا كلمتي لحظات التجلي بل ونسخر من الاخرين إن وجدناهم سارحين في الملكوت ويطرح سؤاله هل لهذه اللحظات قوانين تمكننا من استدعائها؟! يا ليت كان هناك ولو قانوناً واحداً يساعد حقاً على استدعائها ، فقد أسهب في حديثه إنه ليس هناك ولو قاعدة واحدة يمكن اتباعها للوصول إلى لحظة منهم فالأمر يختلف تماماً بل ويتناقض بين البشر ، وقد ذكرني هذا البحث عن قوانين هذه اللحظات كما لو كنا نسعى وراء الغيب ولكن "ان علمتم الواقع لاخترتم الغيب".
صحيح انني قرأت العديد من مقالاته ولكني لم اجد مقالا واحدا له يناقش فكرة واحدة فحسب بل تتدرج الافكار في ذات المقال حتى تشمل كل ما يدور في باله فمن السكون في الظلام و فائدته و روحانيته إلى أهمية الجلوس مع النفس والتحدث اليها ومصادقتها إلى تمني وجود أبنية في الخلاء تتيح الفرصة للهروب من الزحام مؤقتا ، كما نصح بضرورة توفير الوقت المناسب وسط المهام اليومية لتنقية النفس والروح و البدن.
وكتب ايضا عن ثروة ستفقدها الاجيال تباعا ان لم يتم تدوينها كالمجالس الثقافية والصالونات التي كانت تعقد في هذا العصر كصالون نازلي هانم و حافظ ابراهيم و محمد عبده و الافغاني و قد تصادف ان فيض الخاطر بمجلداته هي نفسها تعد تدوينا للتراث الخاص بعصره هو حتى إن لم يتعمد فمقالاته المتنوعة التي تجمع بين السير الذاتية و المقالات الاجتماعية والفلسفة والادب تكشف عن الكثير مما يجهله الأجيال اللاحقة.
واختتم كتابه بمقارنته ما بين حال النقد الأدبي قديما و بين حاله في حاضره ، فمن وجهة نظره برغم ارتقاء مستوى الأدب إلا أن النقد سار في اتجاه عكسي بعيدا عنه ، كما تحدث عن اتباع بعض الناقدين لأسلوب النقد الحاد للكتاب بمجرد صدوره وعارض هذا الأسلوب.
وهكذا انتهت للأسف رحلة أخرى داخل عالم أحمد أمين و لكن لازالت هناك رحلات قادمة تمنحني أملاً حقيقياً في الاستمرار داخل هذا الصرح من الأدب.
#قراء_الجرد_فيض_الخاطر