بجعات برية
" ألم يعرف أن القمع يكون على أشده حين لا يكون هناك احتجاج؟! و يكون أسوأ مئة مرة عندما تقدم الضحية وجها باسما"
حين تُعدّ عليك أنفاسك.. و تُحاسب على ما قلت و ما لم تقل و ما قد تفكر ان تقوله يوما.. أن تُعذّب و تسجن و تصادر حريتك على هواجس نفسك و احلام يقظتك و كوابيس المساء ... ان تفرض رقابة بوليسية. على قسمات وجهك لِمَ َلم تعبر عن ولائك للقائد العظيم ..حين يصبح جارك و ابنك و زوجك جواسيس يترقبون سقطات لسانك !
حينها يصبح الصمت سيد الكلام و يسود الخوف و الموت و الدمار ... و تُجهض الأحلام الثورية و تصادر الحرية و يأله الزعيم وبهتاف ( معا الى الأبد ) تصادر حق الأجيال اللاحقة في الحياة!
عبر سيرة ثلاث نساء صينيات من ثلاثة اجيال من ( ١٩٠٩ / ١٩٩٠) ، تؤرخ الكاتبة ( يونغ تشانغ) لاحداث تاريخية ، تداخلت خطوطها ، فكانت سيرتهن سيرة وطن و امة .. و سيرة ظلم الانسان لاخيه الانسان!
قد لا يكون الظلم السياسي في بعض حالاته الا امتدادا لظلم اجتماعي اكتسب صفة المشروع!
الجدة التي أُخذت جارية لأحد اسياد الحرب و سجنها بعد ليلة واحدة قضاها معها ، لتبقى حبيسة القصر لسنوات عديدة بعد ان هجرها .. محاطة بجواسيس من خدمها قد تكون وشاية واحدة منهم كفيلة بقتلها!
مما يبعث على الاسى ان نظام الجواري و بيعهن كان أمرا معروفا في الصين و يحظى بقبول اجتماعي حينها، و لم يتوقف الا بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩ و بعض الاثنيات استمرت في التعاطي بتجارة الجواري حتى نهاية الخمسينات !
كانت بعض البوذيات تدعو ان تتقمص روحها في الحياة الاخرى ( كلبة او قطة و لكن ليس امرأة ) فعليا تلك الحيوانات لها قمة اكثر منها في ذاك الوقت!
في مجتمع يُؤْمِن بالتراتبية و الطبقية ، عاشت الجدة تعاني من التمييز و الازدراء من عائلة الطبيب شياو الذي اقترنت به بعد ان مات عنها سيدها و كانت قد أنجبت ابنة منه.
تمضي الايام و تكبر الطفلة و تنخرط في العمل الثوري و تنضم للحركة الشيوعية ، تلك الحركة التي قيل عنها انها ( ثورة فلاحين ) و جاءت لكسر الطبقية و تعميم المساواة بين أفراد الشعب ، فإذ بها تنقلب على قيمها، و تعزز الطبقية بين ابناء الوطن الواحد على أسس جديدة، منحت امتيازات كبيرة للمسؤولين في الحزب و لابنائهم ..
من فئة ( غاو _غان ) ( مسؤولين كبار من رتبة ١٣ فما فوق )
فقد كان السفر بالسيارة للمسؤولين كما حدث مع والد الكاتبة بينما زوجته مشت أشهرا على الأقدام حاملة فراشها على ظهرها و قد رفض حمله عنها في سيارته لانها مخصصة فقط للمسؤولين !
و قد كان يمنع الاستحمام بالماء الساخن الا لاصحاب رتب معينة من اجل توفير النقود !
و لهم مستشفيات و عناية طبية خاصة بهم ، و حين أجهضت ام الكاتبة رفض زوجها نقلها الى مستشفى افضل حيث الرعاية الصحية و الاهتمام و النظافة متطورة بمراحل عن مستشفى الشعب ، بحجة ان ذاك المشفى للمسؤولين من رتب خاصة!
الظلم لم يتغير ، فقط تغيرت الوجوه و المسميات .. فيما مضى كان الكومانتنغ هم من يمارسون الظلم و الان الشيوعيون يقومون بالمهمة نفسها و لكن بجنون أكبر !
كالمستجير من الرمضاء بالنار كان حال الشعب الصيني، حين حاول التخلص من الاحتلال الياباني فلجأ الى الكومانتنغ ثم للشيوعيين. لكن الخيبة واحدة و الظلم اتخذ حججا اخرى ليفرض شرعيته!
فباسم الولاء للحزب و قيمه، تم تأليه الزعيم ماو و (كانت كل كلمة منه حقيقة كونية مطلقة، و كل كلمة تعادل عشرة آلاف كلمة) عُطلت العقول و منع النقد او التشكيك باي قرار من قراراته مهما بدا كارثيا ، و يكفي ان نذكر قراره في صب الجهود على صناعة الفولاذ و صهره في أواخر الخمسينات حتى الزم كل صيني بجمع الفولاذ و تغذية مراجله بالحطب ليل نهار، حتى الأطباء كانوا يخرجون من غرف العمليات لتغذية الافران التي تصهر الفولاذ في باحات المستشفيات بالحطب ! عدا عن ان أسرة المرضى الفولاذية كانت مما جمُع و صهر !! كل الشعب في عملية بحث حثيث عن الفولاذ و جمعه !
مما أدى الى إهمال الزراعة و التعدي على الثروة الشجرية فكانت المحصلة مجاعة راح ضحيتها ٣٠ مليون صيني! و اكل الناس جثث الاطفال كما ذكرت الكاتبة !! كانت الفتيات يعرضن للبيع مقابل عشرة كيلو من الأرز !
فقط لان احدا لم يجرؤ ليقول للزعيم اي جنون تأخذ البلاد اليه !؟ لم يعارضه احد و كل من كانت تسول له نفسه ان يبدي امتعاضا للاله الزعيم الذي استمد من ( الخوف) الذي زرعه في قلوب الصينية قوة ليمارس أقصى درجات الاستبداد و الظلم فتتساءل الكاتبة :
( أوجد ماو مزبلة أخلاقية، و أرضا للكره ، و لكن كم هو حجم المسوولية الفردية ، التي ينبغي ان يشترك فيها الناس العاديون؟؟ هذا ما لم أتمكن من تحديده!! )
و يستمر مسلسل الجنون للزعيم ماو ، لتكون ( الثورة الثقافية) على امتداد سنواتها العشرة فوضى عارمة، توقف التعليم الحقيقي ، عدا عن مذاكرة خطب و أقوال الزعيم و مناقشة مقالات في جريدة الشعب .. أعلنت الانتفاضة على ( القديمات الأربع ) و هم الفكر القديم و العرف القديم و الثقافة القديمة و العادات القديمة)
هدمت المعابد التي يعود بعضها الى ٢٠٠٠ سنة! و حُرّقت الكتب القديمة التي يعود بعضها الى مئات السنين و هوجم الأساتذة و المعلمون و اغلقت الجامعات و ضربت الهيئات التدريسية من قبل ما يسمى ( الحرس الحمر) من المراهقين و بدات الدسائس و تصفية الحسابات ، فكل من يود الأخذ بثأره من احد فما عليه الا اتهامه بمعاداة الثورة او انه ( عدو طبقي ) ا و انه من ( اصحاب الطريق الراسمالي )
مما يثير الدهشة ان غوستاف لوبون قد توقع مآل الثورة الشيوعية و انها ستصبح اشد استبدادا من النظام السابق ، يقول في كتابه روح الثورات 😞 و سترى الصين قريبا ما يكون امر بنيانها الجديد الذي لم يقم على دعائم الماضي، فالعلم لم يكشف بعد عصا السحر القادرة على ابقاء مجتمع فوضى ، فستضطر الصين بعد ان تغوص سنين في بحار الفتن التي تسفك بها الدماء الى الاعتصام بسلطة مستبدة اشد من السلطة التي قلبتها..) و هو ما كان فعلا !!!
الثورة تأكل اولادها و هذا ما حدث تماما ، زُج بثوار الامس مثل والدتها و والدها في المعتقلات و تعرضوا لما يسمى ( جلسات التنديد والادانة ) ، كانت تفرض عليهم ممارسة ( النقد الذاتي ) بحق أنفسهم ! و استغل اخرون مثل زوجة الزعيم ماو( و هي ممثلة سابقة) منصبها لأخذ بثاراتها القديمة فعذبت و قتلت ممثلة اخرى لانها فيما مضت اخذت دورا كانت تود القيام به و قصص اخرى لا يتسع المجال لسردها! كلها بحجة الثورة الثقافية !
اغلقت المسارح و المقاهي منذ ١٩٦٦ الى عام ١٩٨٣!
بحجة ان الجلوس في المقاهي عادة برجوازية .. حرمت كل انواع الترفيه الثقافي من فنون و أوبرا و معارض فنية .. تلاشت الألوان و ساد التماثل بالملابس حيث البدلة الرمادية الداكنة رمز لتساوي الجميع .. حتى وصل الخوف بالكاتبة ان تساءل نفسها عن نوع تسريحة الشعر التي يبيحها الحزب !!
"كيف ينبغي ان تكون ضفيرتاي؟ متقاربتين ام متباعدتين؟؟ منسدلتين ام معقوفتين قليلا في نهايتهما؟ هل ينبغي ان يكون الجزء المجدول أطول من الجزء الطليق ام العكس بالعكس ؟القرارات و كلها قرارات دقيقة ، كانت لا تنتهي ، لم تكن هناك أنظمة من الدولة حول تسريحات الشعر ؟ )
ولكن كيف أمكن للشيوعيين ان يحظوا على تأييد الشعب اذا ؟؟
حيث كان قادة الحزب الشيوعي يدركون ان افضل طريقة لضمان ولاء الشعب ، هي عبر تنشيئة ( جيل جديد) و تشويه ( تاريخه القديم ) من خلال ما كان يسمى ( جلسات العدو الطبقي) و ( مر الكلام ) حيث كان يؤتى بفلاحيين عانوا من اضطهاد الكومانتغ ونظامهم الاقطاعي قبل مجئ الشيوعيين و تصوير الحزب بانه ( المسيح المخلص ) لاضطهادهم.. كذلك كانت تعرض افلام وثائقية امام الطلبة حول تعذيب النظام السابق للشعب ، فتعرض مشاهد غاية في القسوة مثل شق احدهم الى نصفين و التمثيل بالجثث! و كذلك كان يخصص يوم لإطعام الطلبة و الشبيبة ( وجبة المرارة) و القول لهم ان هذا ما كان الناس يأكلونه ايام النظام البائد !
ليشعروا بالامتنان للحزب و الزعيم الذي أنقذهم من ماضيهم الأسود .
وصل الامر بالطلبة حد السجود للزعيم ماو و الحج لرؤيته و التبرك بمسقط راْسه و اصبح في مرتبة ما فوق البشري ، يُفدى بالروح و المال و الاولاد، ومجرد التفكير بنقده جريمة لا يمكن غفرانها !
صاحب فكرة ( الطفرة الكبرى الى الامام ) التي أهلكت ارواح الملايين ، نجا بفعلته بل البعض قدم آيات الشكر له على بعد نظره و لتذهب ارواح ٣٠ مليون صيني هلكوا جوعا بسببه الى الجحيم فداء له!!
و قد بلغ من استهتار زوجته ، حين ضرب زلزال احدى المقاطعات الصينية و مات ٢٤٢ ألف صيني و جرح ١٦٤ ألف شخص ان قالت (كان هناك بعض مئات ألوف من القتلى لا غير !!! ماذا يعني ذلك ؟! ان ادانة دينغ شياو ينغ تهم ٨٠٠ مليون انسان )
اتساءل مقدار الوقاحة التي امتلكتها حتى تتحدث بمثل هذا الكلام ؟! لكن دهشتي الكبرى من مقدار الخوف الذي تملك قلوب الكثيرين فمنعهم من قول كلمة : لا و يكفي !
حتى يتصدوا لجنونها! لكن مما يثير الاسى ، ان قرار التصدي لها بعد موت ماو كان بمنتهى السهولة ! فأين كانوا لها بالمرصاد قبل ذلك ؟ هل كان لازما كل هذا الخوف و الجبن؟ هل كانت معارضتها و الثورة عليها و على ماو تستحق العناء ؟!
ان لم تكن تستحق فما هو بربكم ما يستحق الثورة عليه و الانتفاضة في وجهه؟!
لا يهم الشكل الذي جاء به الظلم معلبا.. سواء أكان احتلالا اجنبيا او ظلما حزبيا او ديكتاتورية باسم الوطنية .. لا قيمة لأي غلاف تغلف به ..فليس مبررا ان اقبل ظلم ابن حزبي بينما ادعو لمقاومة محتل اجنبي!
الحرية حق انساني لا معنى للحياة من دونه ، و هو ما تتبعت الكاتبة مسيرتها المتعثرة في بلدها في سيرة جدتها و والدتها و حياتها حتى استطاعت الخروج من الصين و الدراسة في بريطانيا بعد موت ماو .. بعد ان انفتحت الصين قليلا على العالم ، و تذكرت كيف كانوا يحشون رؤؤسهم بترهات البؤس الراسمالي خارج الصين و ان الاطفال هناك يتمنون حياتهم التي يحيونها في الصين ... حتى انها ( فكرت كم نشبه نحن الضفادع في قعر البئر ، في الأسطورة الصينية ، حيث تدعي ان حجم السماء ، لا يزيد على الفتحة الدائرية في اعلى البئر .. شعرت برغبة حارة و ملحة في رؤية العالم)
و هو ما تم لها حين سافرت الى الغرب و مكنها من كتابة هذه السيرة الحافلة عن مسيرة بلدها بحرية كبرى ، مع ان كتابها مازال ممنوعا من النشر في بلدها ،و كم تشبه مسيرة بلدها الكثير من بلداننا حيث تحضرني دوما مقولة يسري فودة : ( يتجسسون عليّ و عليك، بل و حتى على ملابسنا الداخلية ! ) .
فلا طابت أوقات مصادرين الحرية ولا طبنا ان تعودنا
#رائدة_نيروخ
#بجعات_برية
#يونغ_تشانغ