سنوات الجري في المكان
Nora Nagi
دار الشروق
إصدار 2022
صفحة 266
⭐️⭐️⭐️⭐️⭐️
تشريح المأساة (سنوات الجري في المكان)
■ «ما قدرك سوى أن تكون ميتًا؟ من سوء الحظِّ أنَّ جيلك هو المختار. من سوء الحظِّ أنَّ أفضل أيَّام حياتك ستمضيها ماشيًا على الأرض كروح. لكن هذا قدرك.».
كانت امي رحمها الله دائما ما تخبرني أننا أموات أولاد أموات لذا نشات على تقبل حقيقته ووجوده ولكن بمرور الوفت يفطن المرء إلى انواع شتى من الموت اقسى واعظم هولا من ذلك الموت الذي ينتهي بتوقف عضلة القلب لشخص ما.
نسير في الحياة لنرى ملمح من ملامح الموت في كل يوم وكأن الموت نبتة خبيثة وجدت خصيصا لتتغذى على ارواحنا بالتدريج حتى تصل فى أخر الامر إلى مبتغاها أو كما قال الرافعي رحمه الله: " يموت الحي شيئاً فشيئا؛ وحين لا يبقى فيه ما يموت، يُقال: مات" وهذا ما اعتمدت عليه الكاتبه في روايتهاولكن ما جعل الامر مؤلما هو تلك الصفعه التي داومت عليها صفحة تلو الأخرى قاصدة عن عمد أن تقول لنا أفق انا لست اتحدث عن رواية هنا.
أنا اتحدث عنك انت .. انت وحدك الميت .. الحي.
"كل من حولنا يملكون أسبابًا للحزن، وكلنا نسير في صمت وكأننا لا نشعر بشيء، لكننا نشعر بكل شيء"
في وطني ثقافتنا تقتضي التجاهل والتحايل نتجاهل الظلم والقهر حتى لا نتعرض لدرجة اكبر منه تسلب منا الحقوق فنتصنع عدم رؤيتنا وانتباهنا للأمر نتحايل على الواقع المرير ببسمة او نكتة تصف حالنا البائس فنظل نضحك ضحك كالبكاء يأخذمنا أكثر مما يعطي حتى نذوي لذا لا اتعجب من مقولة "خير اللهم اجعله خير" بعد نوبة ضحك قوية ولكن بعض المصائب تاتي لكي تظل شامخة عفية لا تقبل بالتحايل والتغافل عنها وقد كان.
تبدأ الرواية من النهاية حيث انتهى الحال بموت سعد وما أعذبه من أسم حين قرأته فنرى سعد في مشرحة زينهم مسجي على لوح معندي بارد لم تفارقه بسمته التي اكتسبها زهوة بالنصر وما لبثت أن صاحبته الى السماء حينما اخترقت رصاصة غادرة عينه التي هي سلاحه الوحيد باستخدام الكاميرا في الميدان.
دائما ما يكون الموت هو النهاية ولكنه هنا كان البداية او لنقل أنه بداية النهاية لا أدري حقا ما زلت واقعة تحت تأثير الرواية .
لم يكن سعد وحده في الميدان بالطبع كان معه الاف غيره ولكنهم هم وحدهم من حملوا الغصة وانطلقوا مصطفى ونانا وياسمين ويحيى لنرى بعدها ما آلت اليه الأمور معهم وكيف تقبلوا واقعهم.
لم يكن أول تعارف بين الموت وسعد فقد شهده قديما مع والده حينما غرق ضمن ضحايا العبارة سالم وهو قادم من الخارج بعدما قررتقديم سلسلة التنازلات الشهيرة التي تبدأ بالغربة من أجل حياة كريمة لاسرته وأولاده فتذوق سعد طعم الموت تدريجيا ولكنن تجسد له في الألوان فراح يشرح لنا مراحله بداية من الازرق الباهت الهش مرورا بأسود التلاشي فأحمر الفزع والهشاشة ثم اخضر الكذب والإنكار فرمادي الكأبة والمرد حتى أبيض الثبات الذي لا مراء فيه ولا مناورات فيكون لون الكفن ولون الولادة ولون الحياة ولون الموت هذه في الحياة لدى سعد مزيج من الألوان حاول جاهدا التعبير عنها على حقيقتها لا كما أولها الناس.
وحدها ياسمين من عرفته وجدته امامها في المشرحه ضمن من اتوا لم تتخيل ان تجد صديق امامها هكذا قط عرفته وغسلت الدم المتجمد حول ذلك الثقب بعينه واخبرت نانا لل
تتاكد وبعدها ذهبت لتأكل كي تكمل ذلك اليوم الشاق ولكنها على غير العاده تقيأت ما قضمته وفقدت بعدها حاسة التذوق ولكنها لا تنسى ان تصف لنا مذاق بعض المشاعر كما احستهة سابقا لتخبرنا اولا بمذاق الموت ❞ الموت في مجمله مثل حلم، عند الاختفاء نتحول إلى حلم في ذاكرة الأحياء، شخص كان هنا وتلاشى، لا يمكن لمسه أو الإمساك به، مجرد صوت في رسالة صوتية أو صورة في علبة خضراء محفوظة في الدولاب، كل الأطياف الباقية لمن رحلوا هي مجرد انعكاسات للموت والحلم. ❝ ومنه تنتقل لمذاق الذكرى والذي هو خادع وكاذب يمكن أن يقنعك بأي شيء يريد كأن تزيق واقع بغيره ملفق ما دمت لست مطالب بإثبات الحقيقة فالكذب اهون ومنها لمذاق الخوف الذي يجعل الحياة تستمر برغم فقدها لم يكونها من الاساس وهكذا تظل تذوي بين جنبات الحياة منتظرا موت لا يأتي اعتقادا منك انك مازلت متشبثا بالحياة في حين انك انتهيت منذ زمن لتكتشف وقتها فقط ان للاشيء مذاق وهو ما حدث لك فتساوى الوجود مع العدم.
يحكي مصطفى عن معنى الحياة بشكل أخر يعرفها من صوتها الذي فقده بعدما فقد سمعه يوم مات سعد فلم يعد يسمع الاصوات بوضوح يسمع فقط تلك الذبذبات الخفية التي تحيط بالصوت الواضح القوى وما عدا ذلك مفقود يخبرنا عن صوت الرسالة التي تعدك بأمل جديد ربما او ذكرى ماضية ظننت أنك تخطيتها أو حلم مؤجل لاجل غير معلوم ويحدثنا عن صوت الموت تلك التكه التي تخلخل الهواء من حولها ليقف الزمن لحظة لا يعود بعدها كما كان ويظل يصف حتى يصل لصوت الهتاف وما اعظمه من صوت حين وصغه ب ❞ الهتاف الذي يخرج من القلوب لا يشبه صوتًا، أو ربما هو صوت الخالق، أو هو الخالق يتجلى أمامك في ذبذبة، فتخر صعقًا.. ❝اهتز وجداني لهذا الوصف فهذا هو صوت الحق حينما يعلو ويضج يخرج من القلب والجوارح قبل اللسان .
لا يكتفي يحيى بالمعرفة السطحية ل سعد كيف وقد اثر موته على حياته وقلبها رأسا على عقب فمنذ وفاته وياسمين لم تتخطى الامر وحتى بعد زواج يحيى من ياسمين ظلت المأساة تكبر والفجوة تكبر حتى تخلى يحيى عنها فلم يعد يحتمل انهيارها قرر البقاء ولكن وحيدا بلا ياسمين وبلا ثورة وبلا شعارات فبدل القصائد الثورية بالاغاني والمسرحيات النجارية قرر مواكبة التيار ووصف لنا الحياة كرائحة ما بين رائحة دم وقلب وخوف ودموع تماهى رافضا الاعتراف بعجزة عن الاستمرار راغبا للمحاولة حتى آخر لحظة له مغلفا بقشرة صناعية ما لبثت ان انهارت في احضان نانا .
تأتي نانا في النهاية كجواد رابح كقطعة بازل نهائية توضع لتتضح معالم الصورة جليه لا يشوبها شائبة فتقرر تحقيق حلمها بكتابة رواية واي رواية أعظم من قصة جيل حلم وانتفض لتحقيق حلم طال ثم وجد نفسه فجأة يتشبث بسراب ويكتشف انه بعد كل شيء ما زال ثابت يجري في مكانه لم يتحرك قيد انملة.
دائما ما أقف مبهورة أمام عمل روائي او قصيدة لأتسأل كيف اسنطاع الكاتب أن يصف الامور بهذه الطريقة وكيف ملك زمام موهبته هكذا وجعلها طيعة بديعة ولكن هنا استطاعت الكاتبه ان تدهشني اكثر بدرجة لم أكن اتوقعها إذ أنها استطاعت أن تجعل مشوع فني يقدمه سعد ان يصف حال شعب على مدار ثلاثة عقود فكرة لم ينتبه لها سوى الساسة وصانعي القرار فحتى اهل الفن لم يفطنوا لمغزى المشروع فكانت النتيجه العقاب والاختفاء ناهيك عن وأد حلم استمر لسنوات طويلة في مهده.
طوال القراءة وانا اشعر بذات الغصة التي شعر بها الابطال فأستنكرتها حواسهم قبلهم وقررت التنحي عن دورها فلا داعي لها ما دتم لا شيء يتغير فالعالم وحده يتغير والاشخاص محلك سر اصبحوا ارواح هائمة لا طاقة لها ولا فائدة.
لغة الرواية جاءت بديعة مفعمة بالشعور يتدفق من بين ثناياها فكنت أشعر بذلك التقلص اسفل البطن وتلك القشعريرة والرغبة الملحة في التلاشي والشعور المخزي بالعري كلها مشاعر آلمتني واكثرهم ايلاما هو الشعور بالخيبة فبعد اكثر من عشر سنوات ووسط ما تحمله الحياة من ملهيات اكتشفت أني ما زلت أجري في مكاني الامر أشبه بأن تكون داخل لوحة ثم تقرر القفز خارج إطارها والنظر اليها من بعيد لتكتشف صدمتك القاتلة ويظل السؤال قائما هل استحق الامر ذلك؟ وما سبب الخذلان؟
جاءت الحبكة رائعة والسرد عذب متسلسل يتسرب الى وجدانك دون ادنى مجهود منك كما قامت الكاتبه برسم الشخصيات بحرفية وإميتاز إذ أنها لم تكتفي بسرد خلفياتهم وحياتهم الماضية بل جعلت لسان كل شخصية يحكي من منظور وطريقة مغايرة تماما فتارة تكتب الرواية وتارة تصنع لوحه وتارة تكتب المسرح لتبهرك بشمولية قلمها وفردانيته كما أحببت تحدثها عن بعض الامراض النفسية ودمجها للغناء في بعض احداث الرواية.
في الختام ليست أول قراءة للكاتبه ولن تكون الاخيرة إن شاء الله وإن كنت اجدها تتلذذ بأن تلهب ما لم يندمل بعد أنصح بها جدا.
#مسابقة_سنوات_الجري_في_المكان
#سنوات_الجري_في_المكان
#نورا_ناجي