الرواية هي من الأعمال الأخيرة للكاتبة والصادرة عن دار الشروق في غلاف مميز يحتوي العديد من الرمزيات مع أسم الرواية اللافت والعامل على إثارة الخيال أما عن الكلمة على ظهر الغلاف فقد كانت شاعرية واصفة لأجواء الرواية ومصنفة لها على كونها رواية نفسية تغوص في أعماق المشاعر والأحاسيس البشرية وهو يجعل من تصنيف الرواية نفسية أو وجدانية كما يحب البعض أن يطلق عليها.
وعن نفسي لا أعرف من صاحب الكلمة على ظهر الرواية وكنت أفضل أن نترك للرواية الفرصة في التعبير عن نفسها وان نكتفي بوضع اقتباس منها على الظهر مع التعريف بالكاتبة.
ولو كان الأمر بيدي لكتبت على ظهر الرواية
❞ الموت والزمن والعبث والحياة، لا شيء فريدًا أو أصيلًا، كلنا نسخ مكررة لهاجس واحد. ❝
والآن ندخل إلى عالم الرواية مع إهداء لطيف خاص وبعده كلمة للكاتب الأمريكي ويليام فوكنر ومن ثم ندخل إلى عالم من الألوان بداية من اللون الأزرق مع سعد البيومي.
ومع اول مشاهد الرواية نبدأ نستشعر ماهية اللون الأزرق وما يمثله من أشياء وعناصر حية وتأثير الألوان والأشكال الهندسية المختلفة على النفوس، وكأننا نتعلم الرؤية من جديد للأشياء والألوان والكاتبة هنا تعمدت أن تغوص بنا في أعماق الأحاسيس العامة والخاصة لشخصية سعد وسحلتنا معها في خطوط زمنية متفرقة نتابع من خلال ومضات ومشاهد من حياة بطلها الأول ولكن تلك الومضات كانت في الحقيقة مغلفة بالموت بلا اثر واضح غير بصمات صفعات على الجبين تركها هذا العالم غير العادل لنتذكر كل نفس بل وكل روح وصراعاتها حتى تكاد أن تتماهى معها وتنفعل بها.
وننتقل في المشاهد ما بين الأسود ثم الأحمر فالأخضر ثم البرتقالي والرمادي وأخيرا الأبيض.
الغريب أنني كلما وصلت إلى لون قلت في هذا اللون مقتلي ومرادي وهذا لوني أنه أفضلهم لأجد أن الأفضل لم يأتي بعد.
فبعد سكرات سعد الأخيرة مع ألوانه ننتقل إلى عالم قاسي آخر واعترافات الدكتورة ياسمين لنشاهد موت قططتها أو قتلها ونتعرف من خلالها على مذاق الموت والدفء والذكرى والخوف ومذاق اللاشيء.
شعرت بالأنقباض تماما في تلك الحكايات أو الومضات والاعترافات وحاصرني طعم الخوف وقتلني مذاق الذكرى وتعجبت من لسعة مذاق اللاشيء.
ونستكمل الرحلة الروحية مع تسجيلات الأصوات وتأثيرها وصخبها وهدوئها، ونتعرف على عالم مصطفى الصامت الملون بالصخب والضجيج والذبذبات ومعدات التسجيل والسماعات والمايكات ونتعرف على مفاهيم المشاعر الصوتية من خلال صوت الرسائل والموت والمترو والهتاف والأغاني وصوتها وصوتك.
لم يتملكني شعور بالشفقة على مصطفى ولكني شعرت بالإنبهار مع أفكاره ومشروعاته ومعارضه الفنية التي عبرت عنها الكاتبة بطريقة جعلتني أسمعها وأشاهدها وأتأمل فيها والتي اكتشفت في نهاية الرواية أنها مشروعات حقيقية للفنان مجدي مصطفى.
وبعد ذلك ننتقل إلى الدنيا في مسرح يحيى ونغوص في خليط من الروائح بداية من الدماء مرورا بالجلد ثم العرق والقلب فالدموع.
في ذلك القطاع اختلف النص الروائي وتحول إلى نص مسرحي يعتمد على الحوار ما بين عمرو الطبيب النفسي ويحيى الذي فقد الحياة مع فقدان الروائح.
المثير هنا في هذا القطاع أننا بدأنا في غلق خطوط الرواية الدرامية وكشفنا الستار عن الكثير من الأفكار والعلاقات والشخصيات.
وتعالوا اسمعوا واعوا وتعرفوا على الجزء الأخير من الرواية والذي جاء مفاجأة حقيقية لي ومهما كان تصوري عن النهاية فلن تكون أعظم مما كان.
الفصول الأخيرة كانت عن كتابة الرواية نفسها من خلال نانا أونهال التي شاركت الجميع في حياتهم وموتهم واعترافاتهم وسكراتهم الأخيرة.
وكما حدث مع نهاية رواية "بانا" وضعت الكاتبة هوامشها ومسودتها ومعها القليل من روحها ونفسها وأفكارها على طاولة التشريح تحت مبضع خيال القارئ وهو ما جعلني اقول بيني وبين نفسي "عظمة على عظمة" ولم تكتفي بذلك بل راحت تجمع كل خيوط الرواية وتحفها وتضبطها وتعقد نهاية كل خيط كما تعقد الجدائل السوداء الطويلة.
من الواجب هنا الحديث عن اللغة والسرد والحوار الذي جاء بلغة عربية فصيحة منمقة بلاغية في كثير من الأحيان مع تطعيم ببعض العامية المصرية الفصيحة غير المتكلفة في مواضع شتى لتقوية المعنى وإظهار المعاني أو الفكرة.
شخصيات الرواية غير قليلة ولكنها ليست بكثيرة وجميعها عظيمة الرسم والتصوير والتجسيد على الرغم من غياب الوصف عن كثير من الشخصيات إلا أن التركيب النفسي كان كافي جدا لرسم صورة متكاملة لكل شخصية.
أما عن السلبيات هنا فهي محدودة للغاية وتتلخص في حصر شخصيات الرواية كلها في قوالب نفسية محددة لها نفس الطابع والنمط الشعري والفني والفكري والسلوكي وغير معبرة عن قطائع كبيرة وكثيرة مختلفة من المجتمع وكنت أود أن تكون الشخصيات مختلفة في التوجه والفكر والثقافة والأيدلوجية.
بشكل مباشر أنا عن نفسي لم أجد شخصية واحدة تمثلني أو تعبر عني وهذا ما أثار حفيظتي.
وهذا لا ينفي أن الكاتبة أبدعت في أن تعبر عن نفسها وعن فئة معينة موجودة ومنها أصدقاء ومعارف وأقارب.
في نهاية هذا الريفيو وتلك المراجعة الخاصة لا يمكنني سوى التعبير عن إعجابي الشديد بالتجربة والرواية ورغبتي في ترشيحها لكل قارئ تجاوز الثلاثين من العمر ومر بتلك العشرية في وعي كامل وسعي متصل وجري في المكان.
#أحمدمجدي