قارئ الجثث : مذكرات طبيب تشريح بريطاني في مصر الملكية > مراجعات رواية قارئ الجثث : مذكرات طبيب تشريح بريطاني في مصر الملكية > مراجعة محمد علي عطية

هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

تعد هذه السيرة الذاتية من أكثر السير التي قرأتها امتاعاً وتشويقاً، فهي ليست مجرد سيرة تنقل قارئها إلى أجواء وتفاصيل زمنٍ ماض، بل إنها تفتح أمام القاريء أبواباً ينطلق من خلالها إلى عالم الطب الشرعي وما يقابله من تحديات، ويجد تجسيداً حياً لشخصيات محققي الروايات البوليسية وعلى رأسهم شيرلوك هولمز.

على أن عنوان الترجمة العربية للكتاب ليس دقيقاً، فالعنوان الأصلي هو (Mostly Murder) أي (في الأغلب جريمة قتل)، أما العنوان الذي اختاره المترجم (قارئ الجثث: مذكرات طبيب تشريح بريطانى فى مصر الملكية) فيعوزه الدقة، فالرجل مبدئياً نيوزيلندي وليس بريطاني، وعمله كطبيب تشريح في مصر الملكية قد دام لفترة 11 عاماً فقط، من ضمن ما يقرب من 50 عاماً من الحياة العملية، وإن كانت هذه الفترة باعتراف الكاتب من أهم وأخصب فترات عمله، والتي قابل فيها من القضايا المتنوعة واكتسب فيها من الخبرات ما رافقه بقية عمره. أما الجزء الدقيق في العنوان فهو عبارة (قاريء الجثث)، لأن من يطلع على تفاصيل هذا العمل، يجد أن الطبيب الشرعي وكأنه بالفعل يقرأ ما جرى للجسد قبل الوفاة، من خلال البقايا التي تتوفر أمامه، والتي في بعض الأحيان قد لا تزيد عن بضعة عظام!

بخلاف ذلك، فإني أنتهز هذه الفرصة لأعبر عن استيائي من الغلاف، فمن الواضح أنه شأنه شأن أغلب أغلفة كتب هذه المرحلة قد صمم من خلال (الذكاء) الاصطناعي، ليخرج لنا هذا المسخ الذي يجعلك تشعر أن الطبيب هو سفاح يقف بين جثث القتلى!

يبدأ الكاتب كتابه بمشهد مثير لواقعة العثور على ثلاث عظام صغيرة في قاع بئر في مصر، وطلب الشرطة منه كإجراء روتيني تحديد ما إذا كانت العظام تخص حيواناً أم إنسانا، ليكتب لهم تقريراً يقول فيه: "إن هذه عظام سيدة شابَّة، قصيرة القامة، نحيلة القد، يتراوح عمرها بين 23 و25 عامًا عند وفاتها، والتي مر عليها ثلاثة أشهر، وذكرت أن هذه الفتاة حملت مرة أو أكثر، وأن ساقها اليسرى أقصر قليلًا من ساقها اليمنى؛ لذا فإنها مصابة بعرج ناتج عن مرض شلل الأطفال منذ صغرها. وأضفت في تقريري أنها قُتلت ببندقية محشوة بطلقات مُصنَّعة محليًّا وأُطلق عليها الرصاص من وضع أفقي على مبعدة ثلاث ياردات، وكان القاتل واقفًا أو جالسًا قبالتها ومائلًا قليلًا إلى اليسار ولم تمت الضحية على الفور ولكنها ماتت بعد إصابتها بنحو سبعة إلى عشرة أيام، وفي الغالب حدثت الوفاة نتيجة إطلاق الرصاص."، لتبدأ الشرطة تحرياتها وتنجح في تحديد شخصية الفتاة والقبض على قاتلها!

بهذه المقدمة ينجح الكاتب في تجهيز القاريء لما هو مقبلٌ عليه، ولكي يعرف أنه من مجموعة من الأدلة، مع قدرٍ من الخبرة والمعرفة والقدرة على الخيال، يمكن للطبيب الشرعي أو المحقق الاقتراب من الحقيقة بشكلٍ كبير.

بعد ذلك بدأ الكاتب سرد ذكرياته بالحديث عن أسرته، وعن نشأته في نيوزيلندا، وعن رغبته في دراسة الطب كوسيلة للإنطلاق في العالم، ثم سفره للدراسة في أفضل جامعات الطب في العالم (جامعة أدنبره التي أصر المترجم طوال الكتاب على تسميتها إدنبرج!).

تحدث سيدني سميث عن شخصية شيرلوك هولمز الذي كانت رواياته ذائعة الصيت حينذاك، وعن مؤلفها سير آرثر كونان دويل، الذي كان بدوره طبيباً في الأصل، والذي استوحى شخصية هولمز من شخصية حقيقية هي طبيب الجراحة والأستاذ الجامعي جوزيف بل، الذي اشتهر بدقة ملاحظته وقدراته الفائقة على الاستنتاج من خلال الالتفات للتفاصيل الصغيرة، وفي ذلك يذكر سميث أن المحقق أو الطبيب الشرعي يحتاج كما يذكر هولمز إلى (قوة الملاحظة وقوة التخمين ونطاق واسع من المعرفة الدقيقة)، ويضيف إلى ذلك (القدرة على التخيل المنطقي).

بعد التخرج ساقته الظروف إلى التخصص في الطب الشرعي، وبعدها جاءته الفرصة ليُعرض عليه تولي رئاسة الطب الشرعي في مصر، ليسافر إليها ويعيش فترة حافلة بالأحداث والقضايا السياسية والجنائية، وتحتل هذه الفترة ما يزيد عن ثلث الكتاب، لكنها الأكثر امتاعاً في تفاصيلها.

تتقاطع المذكرات في هذه الفترة مع مذكرات توماس راسل حكمدار القاهرة، كما تُلقي نظرة عن طبيعة الجرائم وخاصةً جرائم القتل ودوافعها، والتي كانت في الأغلب بدافع الثأر، ويتبين من القضايا المختلفة أهمية المعارف العامة للطبيب الشرعي، التي بدونها قد لا يستطيع تضييق نطاق البحث، أو توجيه التفكير للإتجاه الصحيح، وكان من أهم الأمثلة التي تدلل على ذلك هي تفاصيل العثور على بقايا بعض ضحايا ريا وسكينة، فمن ملاحظة أن شعر العانة لم يكن محلوقاً، ومن معلومة أن هذه الممارسة مقتصرة على المومسات، بخلاف السيدات المتزوجات اللاتي يحرصن على إزالة الشعر، وجه المحققين للبحث عن مومسات مفقودات، لتبدأ سلسلة من التحريات تصل للكشف عن العصابة والعثور على جثث بقية الضحايا!

من جانبٍ آخر، نجد في كثير من الحالات استعانة العدالة بالطب الشرعي للتحقيق في حالات قد تتضمن اتهامات لبعض أفرادها، وقد ذكر حالة فحصها لمسجون يشكو تعرضه للتعذيب بالسوط من الضابط، وفي حين أن لجنة من الأطباء (مصريون وأجانب) قد استبعدوا وجود تعذيب، إلا أنه أثبت لهم بالدليل أن الإدعاء حقيقي، بل وجرب ضربة السوط على ذراعه في المحكمة أمام القاضي ليوضح له شكل أثر السوط، وبذلك اقتنع القاضي وأغلب الأطباء، وأُدين الضابط.

ويعقب سميث بعد ذلك قائلاً: "والتقيت بعد ذلك بمحامٍ ذكرني بهذه القضية وأخبرني بتأثيراتها عليهم، ليس بسبب استعراضي بالسوط داخل المحكمة، وإنما لأنني وقفت كموظف حكومي إلى جانب مسجون ضد موظف حكومي آخر." وفي ذلك إثباتٌ لنزاهته وتحريه تحقيق العدالة لمعرفته أن بيده إعدام أو سجن متهم، أو تبرئته، وفي ذلك يقول: "إن مهمة القانون في تصوري هي تحقيق العدل، وأي شاهد من الخبراء يتم استدعاؤه سواء من خلال الدفاع أو المُدعي فإنه يقدم خدمة للقانون والعدالة، وربما غير رأي أحد الخبراء موقف إنسان ما في قضية بعينها؛ لذا فإن عليه أن يركز على الحقائق لا على تأكيد رأيه، ودون النظر إن كانت شهادته تقوي أو تضعف موقف المتهم في القضية أو حتى تهدم أركان القضية كلها. لقد قلت مرارًا إن رأي الخبير الشرعي قد يكون مصيريًّا وقد يؤدي بإنسان إلى الموت أو يحرره تماماً".

في ثنايا المذكرات تحدث عن حوادث الاغتيال التي حدثت لعددٍ من الأجانب والبريطانيين، ثم تحدث بالتفصيل عن اغتيال السير لي ستاك، وعن ملابسات الإيقاع بمجموعة الاغتيال من خلال فحص الرصاصات، وبالتالي تحديد السلاح المستخدم من خلال البصمة المميزة التي يتركها كل سلاح في الرصاصات المنطلقة منه! وفي حالات أخرى، تحدث عن جثث جاءت له بدعوى أن أصحابها قُتلوا برصاص من الثوار – خلال فترة ثورة 1919 – ليتمكن من خلال التشريح وفحص الرصاص المستخدم إثبات أن الضحايا قُتلوا برصاص حكومي ميري، أو رصاص من القوات الإنجليزية.

وعلى هامش ذكره للثورة، فإنه يخبرنا أن السلطات الإنجليزية كانت تستطلع آراء كبار الموظفين التابعين لها لمعرفة أفكارهم وتصوراتهم عن مستقبل العلاقة مع المصريين، وأنه أخبر المسؤول بتصوره بمنح مصر نوعًا من السيادة مثلما هو الحال في نيوزيلندا، في ظل حكومة مستقلة، متصورًا أن ذلك قد يكون مقبولًا من الطبقات المتعلمة. لكن المسؤول علق على هذا بسخرية قائلاً له أنه يبدو أنه قد أكثر من الشراب!

تحدث سميث أيضاً عن البصمات، وعن السموم ومن أهمها الزرنيخ، وعن دوره في نشر ثقافة الاحتفاظ بسجلات للبصمات لجميع المواطنين، وعن كون إدارة الطب الشرعي في مصر في ذلك الوقت رائدة على مستوى العالم في معاملها وفي تحليلاتها وفي نجاحها في حل الكثير من القضايا. وهو في كل ذلك لا ينسى الإشادة بمعاونيه المصريين.

في مجمل حديثه عن مصر والمصريين كان يتحدث بحب وتقدير وإنصاف، وقد ضحكت وأنا أقرأ هذه الفقرة التي تحدث فيها عن الرشوة، حيث قال: " وللأمانة فإن المصريين لم يكونوا وحدهم المتورطين في الرشاوى، فبعض الأجانب كانوا يقومون بالشيء نفسه وأتذكر يومًا أن سألني أحد الأصدقاء الأورُبيين إن كنت أعرف السيد إكس القاضي بأحد المحاكم المختلطة، فقلت إنني أعرفه جيدًا وسألني: "هل يمكن أن أرسل إليه صندوق شامبانيا، فإن لي دعوى استنئاف مقامة أمام دائرته؟" فقلت له: "إن الرجل شديد النزاهة، ولو أرسلت إليه صندوق شامبانيا فقد يعاقبك وتخسر دعواك" وشكرني السائل ومضى متفكرًا وبعد أكثر من أسبوع رأيته وقال لي إنه كسب الدعوى المقامةأمام القاضي إكس، وأن الفضل في ذلك يرجع إلى صندوق الشامبانيا. فاندهشت، فقال لي إنه أرسل صندوق الشامبانيا إلى القاضى باسم الطرف الآخر في الدعوى!"

بعد إنهاء خدمته في مصر، قضي بقية حياته في إدنبره متولياً عدداً من المناصب (الطب الشرعي – عمادة كلية الطب)، ويحكي لنا في بقية الكتاب عدداً من أهم القضايا التي صادفها، والتي تكاد تكون تطبيقات وتنويعات عملية لما تعلمه في مصر من خبرات، وإلى هنا ينتهي هذا الكتاب الممتع الذي تشعر عند إنهائه أنه قد جمع لك عددا من مغامرات شيرلوك هولمز أو هركيول بوارو بين دفتي كتاب واحد، لكنه يتميز بكون أحداثه حقيقية، بعيدا عن الخيال والمبالغة.

وأختم حديثي هنا بأن التطور العلمي وتطور الأدوات ووسائل الفحص بالقطع قد جعل التحديات التي تواجه الطبيب الشرعي والمحقق أقل مما كان يواجه أقرانه منذ مائة عام - فيما يخص الجرائم الاعتيادية على الأقل - لكن التطور التكنولوجي بدوره يصحبه تطورات أخرى في أنواع الجرائم، لتخلق تحديات جديدة، لكن فكرة استنطاق الجثث في عهد به تكنولوجيا متواضعة مقارنة باليوم يعوضه المواهب والقدرات النوعية التي يصطفي بها الله بعض بني آدم، والذين يعوضون نقص التكنولوجيا بتنمية مهارات البحث والتدقيق والانتباه للتفاصيل ومراكمة الخبرات، وهو شيء لا يمكن أن ينجح بدون توفيق الله، وصدق الله عز وجل إذ قال: "علم الإنسان ما لم يعلم".

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق