قدمت لنا الأديبة مريم عبد العزيز روايتها البديعة "هناك حيث ينتهي النهر"، وهي رواية تفيض بعذوبة إنسانية دافئة وتتسربل بحرفية أدبية بارعة.
تساءلت قبل أن أقرأ الرواية، هل هذا العنوان الشعري الموسيقي الجذاب هو مجرد إشارة إلى مكان، إلى مدينة منسية تقبع عند منتهى النهر وتحتضن مصبه في البحر، "رشيد" الوديعة، أم تشير إلى أنهارنا الصغيرة التي تجري داخلنا، والتي نجزع كل مرة تنتهي فيها تلك الأنهار أو توشك أن تنضب، قبل أن نجد نهراً جديداً داخلنا يمنحنا جريانه الحياة من جديد.
الرواية تتكون من ٤٤ فصلاً قصيراً ممتعاً، عناوين الفصول جذابة وموحية، حين قرأت الفصول الأولى بهرتني عذوبة اللغة وثراء المفردات وسلاسة الحكي وجمال التقنيات، مضيت في القراءة مستمتعاً، راغباً عن أي شيء آخر سوى القراءة.
كانت الفصول تتهادى متتابعة في رشاقة، وكان الراوي العليم يحكى لنا كل الحكايات ويخبرنا عن كل الشخصيات، وكان يخاطب بعضهم ويتحدث بألسنتهم فتضطرب الأصوات وتختلط في تداعٍ بديع، وكانت سلمى تخطف زمام الحكي في بعض الفصول، وكذلك حامد، فنجد البوح حتى بما لا يعلمه الراوي العليم أو لم يرغب في حكيه.
"هناك حيث ينتهي النهر" وجدت أديبة رائعة متمكنة من أدواتها، ووجدت رواية بديعة ملهمة، وحكايات مفعمة بالشجون المتوترة، وشخصيات يلفها العمق الإنساني بألمه النبيل.
"هناك حيث ينتهي النهر" شهدت "سلمى" في بحثها عن الونس و"جميلة" في بحثها عن الأمل و"أم بطة" في بحثها عن السكينة، ورأيت "حامد" بغضبه وألمه وسره الدفين و"عادل" بإخلاصه ومأساته و"مصطفى" بحسرته وقسوته الزائفة، وعرفت البحر بضياع حسين وعماد وإدريس وغيرهم، ووجدت ينابيع مختلطة من الأسى واليأس والضياع، ومن الحب والأمل والرجاء.
"هناك حيث ينتهي النهر" رأيت بشراً يعيشون فوق أرضٍ حائرة وأمام بحرٍ قاسٍ، أرض ضاع منها تاريخها ولم ينصفها حاضرها، وبحر يمنح الرزق أحياناً ويضمر الغدر دائماً.
"هناك حيث ينتهي النهر" تبدأ الثلوج الكثيفة في الذوبان، من دفء القلوب وشجن النفوس، ثم تبدأ الحكايات الثقيلة في الانكشاف مع التوق للأمل والخلاص، لكن في النهاية تتسارع دقات طبول الدراما وتتكثف الأحداث، وتتهاوى القلوب مع جميلة وأم بطة وسلمى وحامد، قبل أن تلوح في الأفق ملامح حكايات أخرى لا تنتهي، ..... تماماٌ كالملح.
تحية للأديبة المبدعة "مريم عبد العزيز" على هذه الرواية البارعة والدافئة.