"أيها الشاب.. إياك والسخرية من الناس أو الهزء بالبؤساء، فأنت تجهل الدور الذي تُعده لك الأقدار غداً. واذكر أن أغرب تصرفات الإنسان لا تعوزها أسباب تُبررها: فصن لسانك عن الأذى وحاول ما استطعت أن تتعظ بما يُصادفك من العبر."

ما زلتُ اتهادى في رحلة القراءة لنجيب محفوظ زمنياً، لأصل إلى اللقاء الثامن معه والمجموعة القصصية الأول: همس الجنون.

في 28 قصة بلغة بارعة كالعادة من النجيب، يتناول حيوات أشخاص عديدين مُختلفين، على تباعد كبير من الثقافة والماديات وحتى زمنياً امتدت الحكايات إلى زمن الفراعنة. ارتباط نجيب بالفراعنة أمر لا يُمكن إخفاءه أبداً.

تأتي عبقرية "همس الجنون" أن كُل قصة تستطيع أن تستخرج منها جنوناً بشكلاً ما، المجنون بالسُلطة والمال، المجنون بالنساء، المجنون بالشك، المجنون بالمكانة، المجنون بالجنس، المجنون بالحُب، المجنون بأن يُهتم به ويُحب، المجنون بالكُره، المجنون بالزواج، المجنون بالخيانة، المجنون بالآثار، المجنون بالعنصرية، المجنون بالدين، المجنون بالحكايات، وغيرهم.

قد تتعدد القراءات لهذه المجموعة القصصية، ولكن ما رأيته حقاً، أن بنو البشر يتملكهم أحياناً الجنون الخاص بشيئاً ما، كم مرة تصرفنا بشكل جنوني حول شيئاً أو شخصاً؟ أو من أجل رغبة؟ أو من أجل شعور؟ وكأنه همس الجنون الذي سمعناه، فلم نعد نستطيع إلا أن نتلبس الجنون ولو حيناً. أهو الجنون هو أن أبيع مبادئي؟ أهو السير وراء شهواتي ورغباتي؟ أهو السعي الحثيث لتحقيق الأموال الطائلة؟ أهو الميل نحو الشهرة والسُلطة؟ أيكون الجنون هي تلك الفتاة التي أغرمت بها وأتصرف دائماً بجنون من أجلها؟ أهو الرغبة في أن تُرى وأن تُحب؟ تتعدد التعريفات والجنون واحد.

لم تخلو القصص من النزعة الدينية والصوفية التي كانت من سمات نجيب محفوظ في بداياته سواء عن الإقتباس من ألفاظ القرآن الكريم، أو من خلال النصح والإرشاد على ألسنة أبطاله، ولا أنكر أن هذه النزعة كانت من الأشياء التي فاجئتني في كتابات نجيب محفوظ، ولكن ما يُفاجئني أكثر هو حفاظ نجيب محفوظ على سرده وألفاظه البارعين، والذي دائماً ما ينجح ذلك الحفاظ في جذب إنتباهي لكلماته، وأتذوق تعبيراته وطريقة تركيبه للجمل، ولهو شيء مُدهش أن تُشاهد هذا التنوع على مدار 28 قصة، ولا تشعر بأنك شبعت أبداً.

بكل تأكيد يُنصح بها.