"الحياة ماسأة والدنيا مسرح مُمل، ومن عجب أن الرواية مُفجعة ولكن المُمثلين مهرجون، من عجب أن المغزى مُحزن- لا لأنه مُحزن في ذاته ولكن لأنه أريد به الجد فأحدث الهزل، ولما كُنا لا نستطيع في الغالب أن نضحك من إخفاق آمالنا فأننا نبكي عليها فتخدعنا الدموع عن الحقيقة، ونتوهم أن الرواية مأساة والحقيقة أنها مهزلة كُبرى."
يُكمل نجيب محفوظ سلسلة الشقاء والبؤس البشري في أربعينيات القرن الماضي، فبعد بؤس "القاهرة الجديدة" المُتمثل في بيع الكرامة للوصول إلى أعلى المناصب، نأتي إلى بؤس من نوع آخر في "خان الخليلي" بؤس الخيبة والصدمات المُتتالية. بؤس الفشل وفي الخلفية الحرب تفتك بالشوارع والبشر.
أظن أن أبرز شخصيات نجيب التي قرأتها حتى الآن وآثرت علي، ستكون "أحمد عاكف"، كيف يُمكن أن يعيش الإنسان بعد كُل تلك الندوب التي نهشت روحه؟ كهل أربعيني تلقى من الخيبات والفشل ما يُكفي شارع خان الخليلي بسُكانه.. تجعله الحياة يخدم من حوله. يتقاعد والده فيُشارك براتبه في المصروفات، حتى نسي أنه من المفترض عليه أن يتزوج، نسي حتى وصل سن الأربعين، وجد الحُب، وعندما وجد أخاه الأصغر يُشاركه في نفس "النوال" تركها له! حتى لم يُخبره بحقيقة مشاعره، وعندما ظن أن الحياة من المُمكن أن تُطاق قليلاً، جاء المرض ليُحيل خضرة أرض أخيه إلى صحراء قاحلة. لكم عانى "أحمد عاكف"، ولكم تمزقت روحه.
"فبلغ الأربعين ولم يزل طفلاً، يخاف الدنيا وييأس لأقل إخفاق، وينكص لدى أول صدمة وما له من سلاح سوى سلاحه القديم البكاء أو تعذيب النفس، ولكن لم يعد يُجدي هذا السلاح، لأن الدُنيا ليست أمه الحنون، فلن ترق له إذا امتنع عن الطعام ولن ترحمه إذا بكى، بل أعرضت عنه بغير مبالاة، وتركته يمعن في العُزلة ويجتر العذاب."
وعند هذه الجزئية من الرواية يمكن أن ينقسم المنظور إلى جانبين، المرض وما يفعله فينا، أن مُجرد شيء غير مريء قد يحول حياتنا إلى جحيم من السعال وإرتفاع في درجة الحرارة وإنعدام الشهية والصداع الذي يكاد يفتك رأسك، وكيف أن الإقبال على الحياة وخططك المُستقبلية كُلها يُمكن أن يُدمرها القدر بشيء بسيط مثل هذا، أو المنظور الثاني، الذي رأيته طوال الرواية، حتى بعد وصول المرض، منظور أحمد عاكف. كم الصراع النفسي الذي عاناه وبالأخص بعد مرض أخيه، كم الحيرة، كم الحسد والحقد على أخيه الذي تحول إلى إشفاق.. في أحدى فقرات الرواية تمنى "أحمد عاكف" أن المرض لو صابه هو، بدلاً من أخيه. لماذا مثلاً لم ينتهز "أحمد عاكف" الفرصة ويتقدم لـ"نوال" بعد ما أتيحت له الفرصة في آخر الرواية؟ لأنه إنسان طيب ورائع، ولا أحد يستطيع أن يُنكر ذلك.
"ما أفظع المرض! .. حقاً إن ألمه شديد، وعذابه لمروع، يجعل القوة عجزاً، والشباب شيخوخة، والأمل قنوطاً يُقعد الناهض، ويُعطل العامل، ويُقبح الحبيب، أضاع مُستقبلي، وأطفأ نوري، وأوهن عظامي، وأفقر يدي، اللهم اكفهم شر المرض.."
هكذا كان يُتمتم "رشدي عاكف" في نوبات مرضه، علم أن إقباله وحُبه للحياة أصبح رماداً بسبب المرض الذي عصف بصدره، مرض لعين خبيث أفقد حياته جميع ألوانها، وجعلت كُل من حوله يتألم له.
ولكن هل فعلاً هُناك من تألم أكثر من أحمد عاكف؟ لا أعتقد.. لأن مرضه هو الأمل، والأمل مرض دائماً يُصيبنا ويحول حياتنا إلى سلسلة طويلة من الألم.
بكل تأكيد يُنصح بها.