قراءة في رواية حفار القبور للكاتب د. علي محمد الخرشة
محمود فلاح المحادين
ساحرة في وصفها...
مذهلة في تركيبها...
لاذعة في سخريتها...
حرّاقة في تراجيديتها...
مُحكَمة في سردها...
مُتقَنة في أزمنتها وأماكنها..
هذا بعض ما ستجده في رواية حفّار القبور التي لن تقاوم إلتهامها في جلسة واحدة رغم صفحاتها التي تقترب من الخمسمائة...ليس غريباً فهي تكاد تخلو من الثغرات أو ما يسمى الفواصل الكافية لإلتقاط الأتفاس أو ترك الأحداث معلقة بشكل يسمح بالإستراحة والرجوع لاحقاً...
عندما تستمتع بقراءة كتاب ما لن يخطر ببالك التفكير بأسباب هذه المتعة وأدواتها وعلى الأغلب ستكتفي بالإنتشاء دون الرغبة في البحث عن تفاصيل قد تخرب هذه اللحظات... لذلك يكتفي الكثيرون بوصف كتاب أمتعهم بأنه مذهل أو مشوّق أو ساحر... لا يفكر معظمهم بالموهبة ولا بالسلاسة ولا بالتجلي الذي رافق رسم هذه اللوحة... ولكنني بحثت في جميع هذه العناصر لعلي أجد سر المزيج الساحر الذي يجعلنا نصف كتاباً بأنه مذهل...
في البداية علي أن أعترف أن كتابة قراءة ولو كانت إنطباعية عن كتاب من هذا النوع لهو غاية في الصعوبة، وذلك لأنه وببساطة ينتمي لما يسمى ب(فنتازيا الرعب) وهي مدرسة أو نوع أدبي ترى الواقع من زاوية غير مألوفة قد تكون الشكل الرئيسي لإطار الرواية وحبكتها وعناصرها ككل...تدور أحداث معظم هذا النوع من الروايات في عوالم وهمية أو كواكب ينتشر فيها السحر وهي تختلف عن الخيال العلمي رغم تداخلها معه أحياناً في فكرة الحياة والموت والعلم... وهذا النوع الأدبي نادر جداً في الأردن إن لم يكن معدوماً مما يجعلنا نسلط الضوء على هذا الكتاب كأرضية عريضة وجريئة قد تشكل إنطلاقة لهذا النوع الأدبي سواء بشكل حلقات أو سلاسل أو أعمال فنية سينمائية....
وأنت تسير تصطدم بمقتطفات من الواقع دون أن تستطيع لمسه وتجميد الصورة حوله! واقع شبه زئبقي ملقى هنا وهناك وسط الأحداث بذكاء، الكاتب لن يسمح لك بالقبض عليه متلبساً أثناء محاولته لإنتقاد مؤسسة صحية أو عسكرية أو مجتمعية ولكنك ستعرف بسهولة أنه يتحدث عن الشروخ الإجتماعية في قريتك وفي وطنك، القرى المقسومة بخط واه يفصل بين الفقراء وباذخي الثراء كما في قرية (الوضاحين)... الإستبداد الصحي بمرضى السرطان في الرواية وتهديدهم بإيقاف علاجهم المجاني قد يصادفك بمجرد أن تخرج رأسك من نافذة غرفتك فلست بحاجة للسفر إلى لبنان أو حفر قبر أو مطاردة الخنافس كما فعل مصطفى...
القفز الساحر الذي كان يمارسه البطل بين الشخصيات التي يدخل إلى قبورها بحثاً عن أجزاء خريطة مدينة الذهب كان أشبه بمحاولة حشر جسم سمين في ملابس ضيقة وهذا لم يكن معضلة خطيرة أو محرجة للكاتب الذي كان يحمل درع الكوميديا والسخرية في كل مفاصل الرواية ويرفعه في عين كل قارئ أو باحث عن نقص أو خلل... هذا الإنتقال لم يكن كاملاً فالكاتب ترك جزءاً من شخصية البطل تنتقل معه إلى الميت العائد إلى الحياة وهذه اللحظات التي كانت تتراوح بين ساعات وأيام كانت ملحمة من السخرية بين ردود أفعال مصطفى المهندس الذي يعيش في العام 2017 ولا يجد قوت يومه وردود أفعال رؤساء عصابات أو مقاتلين أو ضعيفي البنية أو شديديها!!! صراع مفرط في التلبس والإنتقال وصل بمصطفى أن يقرأ آية الكرسي عندما شعر جورج الذي يتلبسه بالخوف!
هذه اللحظات كانت تثير أسئلة كبيرة في رأسي، فلماذا نصبح شجعاناً عندما يتعلق الأمر بمصائر غيرنا؟ لماذا استطاع مصطفى ذبح صايل حبيبة العنود عندما تقمص شخصيته بينما لا يجرؤ على اتخاذ أي خطوة عملية للتقرب من حبيبته سارة! وهكذا في جميع المرات! كان مصطفى جسوراً في حل قضايا الآخرين ولكنه عاجز عن حل مشاكله الذاتية!!
ما لفت إنتباهي في كثير من الأحداث أنه لم تتم مواجهة الخرافات لنفيها أو نقضها أو هدمها أو مراجعتها،بإستثناء موقف واحد طلب فيه مصطفى أثناء تقمصه لشخصية حارثة من (هولدو) أن تقول الحمدلله الذي أنقذنا وليس اللات وذو الشرى التي هي مجرد أصنام، وهذه النقطة مهمة جداً ولا أعرف إن كان الكاتب قصدها لأن تركها مفتوحة يثير فكرة أن الفقراء والمعدمين مثل مصطفى والشريحة الكبيرة التي يمثلها يؤمنون بقدرة الخرافات والوهم على حل مشاكلهم! ومن الممكن أيضاً أن تثير فكرة عدم قدرة المجتمع على دمج جميع أفراده وتأمين فرص كريمة لهم سوف يدفعهم للمشعوذين والجرائم ولغيرها من الآفات المجتمعية التي تفتك بالمهمشين واليائسين والمحبطين والمنبوذين الذين يشكلون فئات مغرية وشهية وجاهزة للإستهداف....
لا يوجد ما يسمى بالفلاش باك أو حتى النوستالوجيا أو تداعي الذاكرة إلا إذا استثنينا الإطلالة على الذات عندما أخذ مصطفى دور المسرحي وهو الدور الذي يبدع فيه الدكتور علي و أضاف عليه لمسته الخاصة،،،، ومقابل هذه الأدوات وجدنا ما يشبه الومضات اللحظية، لا أعرف إن كان لها إسم ولكنني سأسميها (فلاش ناو) كناية عن تصوير المشاهد في الوقت الراهن، وهذا تكرر من خلال تذكير الكاتب أيمن للقارئ أنك حالياً تنظر نحو المشهد الذي أقوم أنا بوصفه لك من تجربتي! مثلاً أنت تقف الآن وتنظر لي وأنا أدخن على النافذة، فعلياً أنت لست هناك ولكن للتذكير أو لمساعدتك على الإشراف على المشهد من الأعلى أو الجانب...
ملاحظات الكاتب(أيمن) والذي نستطيع اعتباره بطل ثاني أو بطل غير متوج أو معلن كانت تعطيك فترات نقاهة بين مغامرات مصطفى الذي يعتبر البطل الرئيسي أما البطل الثالث فهو مشمش القط الذي وجد نفسه صديقاً لكاتب بائس يتقاسم معه المرتديلا والسردين ولحظات اليأس والإحباط من عدم كتابة أي كلمة من المسلسل المطلوب منه خلال فترة معينة من جانب ومن ذكرياته البائسة مع زوجته التي تركته وأخذت أولاده وهاجرت لبلدها الغربي! وهذا ما جعل الكاتب يضطر للقبول بمذكرات مصطفى المريض المقيم في مستشفى المجانين (لا يوجد غيره لذلك لا داعي لتسميته) ... وهذه الحادثة تحديداً تكررت بسلسلة ما وراء الطبيعة عندما بدأ رفعت إسماعيل بعد العدد أربعين يكتب قصص من الرسائل التي تصله مع بعض التعليقات أو الإضافات في النهاية....
وهنا يأتي الحديث الذي أخرته حتى نهاية القراءة وهو نقاط التقاطع بين علي وأحمد خالد توفيق، بين مصطفى ورفعت إسماعيل، بين حفار القبور وسلسلة ما وراء الطبيعة،،،، لخوض هذه المقارنة يجب توافر عناصر كثيرة لا يوجد منها بين يدينا سوى النزر اليسير ولكنني سأكتفي بالقول أن الدكتور علي يخوض تجربة ومجازفة قد يخرج منها منتصراً أو على الأقل بدون جروح خطيرة... لست أبالغ إن قلت أنه يستطيع كتابة سلاسل مشابهة لسفاري وما وراء الطبيعة ورجل المستحيل..يمكن البناء على هذه الرواية الكثير فهي متماسكة لمدة تزيد عن 450 صفحة مما يوحي بقدرة الكاتب على وضع تقسيم زمني لحلقات كثيرة سيستمر القارئ بإنتظارها بلهفة مهما زادت مدة الإنتظار فيما بينها... أتمنى كقارئ أن نرى هذا العمل قريباً فهو ما نتمنى بعد عقود من جفاف الأقلام الموهوبة بهذه الطريقة الملفتة أن نراه... موهبة تستحق من يلتقطها ويفتح لها المجالات التسويقية ففي جميع أنحاء العالم لا يقوم الكاتب أو الفنان بتسويق نفسه بل تتلقفه الجهات المعنية وتحتفي به وتدعمه وتتبناه وتفتح أمامه السبل وتزيح عن طريقه العقبات ليتسنى لقلمه الذهبي أن يتفرغ للإبداع...
في هذه النقطة بالتحديد هناك مشاهد كثيرة حول التشابه بين علي وأحمد خالد توفيق، وأنا لا أجد في وضعهما في حالة من الندية شيئاً من الإساءة لأي منهما، في الأدب والفنون لا يوجد ما يسمى بالتعصب أو الإنتماء المتشدد لكاتب ما يجعل أتباعه يحرمون على الآخرين إعادة إستخدام أساليبهم أو أبطالهم! أبسط القراء يدرك أنه لا يمكن لكاتب أن يسرق جهود كاتب قبله مهما تشرب أساليبه وتمكن منها، وكما يقال الكبار يعرفون قيمة الكبار لذلك لا يتطرق لهذه الملابسات إلا صغار العقول والقلوب...
سجلت هنا بعض هذه المشاهد المضحكة التي كنت أستمتع بها في سلسلة ما وراء الطبيعة والحمدلله أنني اليوم أستمتع بها بقلم كاتب أردني مبدع إذا لم ينصفه أحد عاجلاً فلن أؤمن بأي جهة ثقافية تدعي أنها تحمي المثقفين وتدعمهم من الآن فصاعداً...
-يرتدي مثل الروم سيرفس مع أنني لا أعرف ما يرتدون!
-نظراته مثل نظرات الثعلب عندما يخرج ظافراً بدجاجة، أنا لا أعرفها ولكنني أفترض ذلك!
-كان سائق الحافلة يريد أن يغير الزيت للحافلة وليس للسائق طبعاً!
يجب الإشادة بعنصري الزمان والمكان وقدرة الكاتب المذهلة على إمتاع القارئ بسلاسة التنقل الأنيق بين الأزمنة والأماكن، لبنان، البتراء، الوقت الحاضر، الماضي، البادية،اليمن، الحضر، قبل 65مبلادي، قبل عشرات السنين أحياناً..يحتاج هذا التنقل مهارات كثيرة ومعقدة لا يدركها القارئ الذي يكتفي بمتابعة الأحداث المتتالية، يحتاج إلى ثقافة واسعة وإطلاع عريض ولغة مترامية الأطراف لا يمكن الحصول عليها بيوم وليلة بل هي حصيلة سنوات من القراءة المكثقة والتجارب العملية والكثير الكثير من الأسنان المرممة!!