قليلا ما احتار في وصف رواية، ومع هذه الرواية بالذات كلما شرعت في كتابه ريفيو عنها تراجعت، ولا أجد كلمات يمكنها التعبير عما شعرت به عند القراءة، أو عما سيناله القارئ من وجبة فكرية وعقلية قد لا يستوعبها عقله من القراءة الأولى من فرط دسامتها .

ومن النادر أن أقابل رواية تجعلني أشمر ساعداي مستنفرا لكل قواي العقلية؛ لتحليل ما بها من أحداث وشخصيات وأفكار ونظريات، واعترف إنني كنت مستنفد القوة منهك؛ كأني خارج لتوي من معركة عنيفة بعدما أتممت قراءتها، والآن هل أعدك بقراءة عمل أدبي يجبرك على أن لا تتركه من يدك حتى صفحته الأخيرة في جلسة واحدة، إذا وعدتك بهذا سأكون كاذبا من كثرة الأحداث، وما بها من تفريعات ومعلومات وتحليلات ستجبرك على التأني، وإعادة القراءة مرات ومرات لتكتشف في كل مرة الجديد.

عذرا لقد أنساني الحديث ذكر اسم الرواية، أتحدث هنا عن رواية عاشق ومعشوق الصادرة عن دار الفؤاد للنشر، الدار الحائزة على جائزة أحسن ناشر لعام 2023، الرواية خرجت للنور هذا العام مع انطلاقة معرض القاهرة للكتاب بقلم المهندس والأديب أحمد ربيع.

قلم المهندس أحمد ربيع ليس قلما تقليديا، قلم فيلسوف له نظرته الخاصة، جياش العاطفة، متمكن لغويا، له قدرة نادرة على مزج جغرافيا المكان مع دراما الزمان، في مزيج لم أصادفه إلا عند القليل من أدبائنا الكبار تحديدا نجيب محفوظ، والعم خيري شلبي، وجمال الغيطاني. وعند ملك الدراما التليفزيونية أسامة أنور عكاشة، ولن أكون مبالغا أو مجاملا إذا قطعت بأنه يتفوق عليهم أحيانا.

المكان لديه كائن حي يتنفس، يحيا ويذبل ويموت، لا أكون مبالغا إذا قلت إنه يرسم تجاعيد الزمن على محيا المكان، في النهاية هو مزيج حقا أعجز عن وصفه.

الرواية مليئة بالرموز، لكنها ليست الرموز المعجزة، أو البعيدة عن الفهم، وليست كالكلمات المتقاطعة، لكن لا بد أن تكون ملما بالتاريخ المواكب للرواية حتى يمكنك فك تلك الرموز، وحتى لا تقع في الفخاخ التي حاكها لك الكاتب لتبدو بريئة، وحتى لو لم تجهد عقلك في تحليلها وفك شفراتها؛ المؤكد إنك ستستمتع حقا.

تحدثنا الرواية في مظهرها عن عائلة فهمي سليمان مالك ورشه الأرابيسك والنجارة، المنتقلة إليه من الخواجة المالك الأصلي لها، وصراعه مع عائلة الوكيل التي كان لها الجولة الأولى، ليموت فهمي قهرا تارك العائلة معلقة بعنق نجله الأكبر من الذكور سليمان فهمي سليمان، الشاب المتعلم والنابه والعاشق لفن الأرابيسك، ورشه مخربة مثقلة بالديون استولت عائلة الوكيل على جزء منها، وشقيقات من والدته المتوفاة هن زينب وفوزيه وخيرية، وإخوة بعمر الصبا والطفولة من زوجه أبيه الثانية بائعة الشاي هم مصطفى وأميره وأحمد وحمدي وإيمان، اعتبرهم سليمان أبناء له لا أخوه أو أشقاء فقط، ليحمل حمل ثقيل، من تحرير ورشه أباه من الديون، ومن العار الذي لحق به وبعائلته على يد عائلة الوكيل، وتربيه إخوته وإيصالهم لبر الأمان، ومن شارع عبد العزيز بكل تضاريسه القديمة في العصر الملكي تبدأ الأحداث في التصاعد لنحيا مع سليمان وإخوته ونري ما سيحكم به الزمان عليهم.

هل تعتقد أنى هكذا قمت بتلخيص الرواية، أو أعطيتك فكرة حقيقية عنها، عذراً ستكون واهما؛ فالرواية أعمق من هذا بكثير، ستجد فيها تاريخ مصر الحديث منذ قيام ثورة يوليو وحتى يومنا هذا تقريبا، يتجسد هذا التاريخ وكل ما مرت به مصر من أفكار ونظريات وسياسات عبر أفكار واعين شخصيات القصة الرئيسية، ووجهة نظر الكاتب بكل تأكيد.

يغريني القلم بإيراد المزيد عن القصة، عن شخصيات العائلة، وعن النظريات والأحداث، ووجهات النظر الفلسفية التي لا يخلو منها سطر، لكني سأكتفي بما أوردته، وللقارئ أن يكتشف بنفسه الباقي، وأعدة أنه لن يندم مطلقا.

قبل أن أغادر إلى منطقه الاقتباسات شخصيا أختلف مع بعض الشخصيات بالرواية، وبالتالي مع الكاتب في الكثير والكثير من وجهات النظر والرأي وتفسير الوقائع، وارى أن الأب الذي لم يذكر إلا في البداية ظلم ظلما فادحا، ولا أرى سليمان حكيما على الإطلاق بل منقلبا على أبيه لا امتداد له رغم أنه دائما ما يحمل أبيه ما عاشه من أحداث وماقام به من تضحيات.

كما أن الكاتب كان قاسيا مع النساء والشخصيات النسائية كقسوة نجيب محفوظ في ملحمته الحرافيش وخاصة في رائعة شهد الملكة.

(اقتباسات)

"هذا أوان الرغبات الخاطئة والحماقات المكبوتة، الفقر الذي يقسو والعقبات التي لا تواجه؛ أنا بطل بلا نياشين سواهم، فهل اعترفوا بي، أم صارت مجلدات تاريخي مجرد طعام للعث، وصرت أنا سجن للحياة وفردوس للموت والهزيمة!"

"الرجل انتهى بعد هزيمته أمام الوكيل منذ ثلاث سنوات، كل ما يفعله غير ذلك هو محاولات اليائس وصرخات المهزوم، كان يقول إن الله لن يتركه بعاره هكذا ناسيا أنه هو من بدأ بتركه."

" أما أنت يا قره العين، أيها الباقي من شقاء السنين فاذهب مصحوبا برعاية الله...

أنى عنك راض، وعليك مشفق، ولك مساند تحملت في شبابك ما لا تحمله غيرك في عمر بأكمله، ولن يضيرك ما نحن مقدمون عليه مهما كان مؤلما.

ويا ربي،

يا إلهي،

يا مولاي،

يا أيها المقدر لكل ما حدث،

يا صاحب الحكمة التي قد لا نصل إليها،

اللهم عونك،

اللهم فضلك،

اللهم كرمك..."

الخلاصة:

رواية ممتعة لأقصى درجات المتعة، دسمة، مثيرة لأعمال الفكر وفي كل الأحوال يجب أن تقتنى.